أيلول 2020 يعيد رسم خرائط الصراع ويبشر بانبثاق الضوء المفاجئ
عابد الزريعي
مدير مركز دراسات أرض فلسطين للتنمية والانتماء
يزدحم شهر أيلول 2020 بعديد الأحداث التي تتعلق بشكل مباشر أو غير مباشر بالقضية الفلسطينية. بعضها آت من سجلات التاريخ، وبعضها يتبدى كواقع ملموس ومعاش. ومن اجل استخلاص جوهر تلك الاحداث ودلالاتها، ومدى تشابكها، على بعد المسافة بينها، مع اللحظة التي نعيش بكل ابعادها وتحدياتها السياسية. تقتضي الضرورة إعادة ترتيبها وتنظيمها وفق رؤية محددة. ولقد تراكمت على السلم الزمني لشهر أيلول أحداث مصيرية، عاشتها الثورة الفلسطينية المعاصرة وحركة التحرر العربية. ففي أيلول 1970 كانت المؤامرة على البندقية الفلسطينية والمذبحة والطرد من الأردن، وفي أيلول 1982 كانت تصفية العميل بشير الجميل بعد ارتماءه في أحضان الكيان الصهيوني، وكانت مذبحة صبرا وشاتيلا بعد الرحيل من لبنان وترك المخيمات بلا سلاح، وفي أيلول 1993 كان توقيع اتفاق أوسلو في العاصمة الامريكية واشنطن، وفي أيلول 2020 كان توقيع الاتفاق الاماراتي والبحريني الإسرائيلي. وفيه أيضا كان اجتماع الأمناء العامين للفصائل الفلسطينية بعد طول غياب. وعلى الرغم من الزمن الفاصل بين هذه الاحداث، فثمة توافق وتناسق سياسي فيما بينها، يتجسد بشيء من الخيال في شكل مثلث للحقيقة السياسية، تحف به وتملأ فراغه رموز ودلالات.
تنتظم على الضلع الاول للمثلث وبتناسق غير مسبوق، قوى العداء التاريخي للامة بأطرافها الثلاثة، الرجعية والصهيونية والامبريالية الامريكية. هذه القوى كانت حاضرة في مذابح أيلول 1970، وحاضرة في مذبحة صبرا وشاتيلا. وأخيرا قدمت عرضا مشهودا تجسد في اطلالة الرئيس الأمريكي ورئيس الوزراء الإسرائيلي ووزيري خارجية الامارات والبحرين، من شرفة البيت الأبيض في العاصمة الامريكية واشنطن.
وتنتظم على الضلع الثاني قوى النظام الرسمي العربي المتجسد في جامعة الدول العربية. وهي دول متنوعة المشارب متعددة الخيارات، سريعة الانزلاق إذا لم يكن هناك كابح او رادع، ومن بينها من ينتمي علنا الى القوى المنتظمة على الضلع الأول. وقد عبرت هذه الدول عن موقفها في الاجتماع الأخير لجامعة الدول العربية، الذي شرعن التطبيع ونقله من خانة الامر الذي يهم مصير الامة، الى كونه امرا سياديا خاصا بكل دوله، تستطيع ان تقدم عليه وقتما تشاء، بالضبط مثل رفع سعر السكر او أي مادة استهلاكية داخلية. مجموعة تلك الدول، بعضها اغراه المال، وبعضها اصطكت ربكتاه خشية التدخل في وضعه الداخلي الهش، وبعضها وجد نفسه وحيدا بعد ابعاد الأنظمة الوازنة من الجامعة، فخير السلامة والمرور بجانب الموقف دون ان يلامسه. وكتم صوت الحق على الرغم من يقينه ان باطلا يتبدى امام عينيه.
اما الضلع الثالث فتنتظم عليه قوى المواجهة والخلاص. وقد كانت هذه القوى موجودة أيضا في كل الاحداث التي عرفها شهر أيلول منذ العام 1970 في المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية الأردنية واللبنانية، وقوى مختلفة على امتداد الساحة العربية، وتجسدت أخيرا في أيلول 2020 في اجتماع الأمناء العامين لفصائل المقاومة الفلسطينية، وكذلك في التحركات التي قامت بها جماهير وقوى عربية مختلفة، في محاولة للرد على تحديات اللحظة.
ان العلاقة بين الاضلاع الثلاثة علاقة مرنة تتجسد في سهولة الحركة والارتباط بين اغلب دول النظام الرسمي العربي، وقوى معسكر العدو، لتشكل في لحظة ما ضلعا واحدا في مقابل قوى المجابهة والخلاص. بينما ينتصب في المساحة الفاصلة بين الاضلاع الثلاثة اتفاق أوسلو الذي تحل ذكراه 27 يوم 13 من شهر أيلول كحدث تاريخي مفصلي. ومن خلال هذا الموقع يبدو وكأنه صيغة سياسية للربط المعلن بين الضلع الأول والثاني وبعض أطراف الضلع الثالث، وبهذا التشبيك يتبدى دوره، وكأنه صيغة ضغط على قوى المواجهة. لاسيما وان القوى الرجعية المصطفة علنا مع العدو الامبريالي الصهيوني، ليس لها من ذريعة تغطي عريها غير أوسلو والتطبيع الفلسطيني، وهو كلام حق يراد به باطل. كما ان القوى التي تلتصق بالجدار وتغطي بترددها على القوى الأولى ان لم تقل علنا فهي تهمس سرا بذات الموقف.
لذلك بات الخلاص من أوسلو ضرورة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من المشروع الوطني الفلسطيني. لاسيما وان الذهاب الى أوسلو، كان من اجل تحقيق هدف إقامة دولة فلسطينية على حدود 4 حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. وإذا سلمنا جدلا بصحة الهدف وقيمته قياسا للأهداف الحقيقية والتاريخية للشعب الفلسطيني. من حقنا ان نسأل بعد 27 عاما: هل تحقق الهدف؟ هل نقترب من تحقيقه؟ هل يمكن تحقيقه في حال الاستمرار على ذات الطريق؟ إجابة على ذلك تقول الحقائق: ان اركان اية دولة كما حددها فقهاء القانون الدولي تتلخص في الإقليم والسكان والحكومة السيدة، والاعتراف لدى بعض منهم. وبنظرة سريعة نجد ان الإقليم الذي حدد لإقامة الدولة يزداد تأكلا وتشوها يوما بعد يوم، حتى تبدى على الصورة التي رسمتها خرائط صفقة القرن. والسكان يزدادون تقسيما وتفتيتا ليس بين ضفة وقطاع و48 وشتات فقط، بل على مستوى السيكولوجيا التي باتت تنخرها العشائرية الى اقصى الحدود. والحكومة السيدة وباعتراف سدنتها ليست أكثر من أداة وظيفية تؤدي واجبا تجاه الاحتلال، يتناقض مع المصالح التاريخية والمستقبلية للشعب الفلسطيني. وبالطبع لا أحد يعترف بها وان كان يتعامل معها. يضاف الى ذلك ان كل يوم يأتي نجد أنفسنا وقد ابتعدنا أكثر عن تحقيق الهدف فالذكرى 27 ابعد عما قبلها، وما بعدها سيكون ابعد منها. اي اننا نمضي في التيه. ان الخروج من ذلك المأزق الفخ من المفترض ان يكون جواب أول على اللحظة الشائكة، وفي سياق الخروج يمكن ترتيب بقية العناوين (الانقسام) الذي لا يمكن ان ينتهي مع البقاء في أوسلو. بل ان البقاء في أوسلو يشكل عاملا حاسما لإبعاد إمكانية تحققه.
ان خارطة الصراع التي تعيد رسمها احداث ووقائع أيلول الاتية من سجل التاريخ والمتجسدة كوقائع حية، تؤكد ان القوى المعادية باتت أكثر وضوحا واصطفافا وتراصا الى جانب بعضها البعض، وتتميز بتحركها الدؤوب من اجل الإيقاع بآخرين للانضمام اليها، وفي العمل المكثف لتعميم التطبيع على أوسع نطاق وهي المهمة التي تتصدى لها الامارات بالاعتماد على الأموال واختراقات سابقة ومتراكمة. وفي خضم هذا الاصطفاف تمكنت إسرائيل من الانتشار والتمركز في جغرافية الطوق الثالث، وبالنتيجة العمل من اجل توظيف هذا التمركز في استعمار دور فلسطين بعد استعمار الجزء الأهم من جغرافيتها. الامر الذي يتبدى من خلال طرح العديد من مشاريع الربط الاقتصادي عبر الموانئ وخط سكة حديد الحجاز مع الامارات والسعودية. كذلك العمل من اجل توظيف هذا التمركز في مواجهة محور المقاومة بشكل عام والعمل على النيل من إيران بشكل خاص. اما بالنسبة لقوى المواجهة والخلاص فمن الواضح ان ارتباكا واضطرابا يتبدى في صفوفها، الامر الذي يفرض وبشكل لا يحتمل التأجيل العمل على ترتيب البيت الفلسطيني سياسيا وتنظيميا، وكذلك ترتيب بيت قوى وفصائل حركة التحرر العربية سياسيا وتنظيميا، وضرورة استعدادها لخوض المعركة التي باتت تدور على ارضها ضد التطبيع والتموضع الصهيوني الزاحف. ونختم بالعودة لأحداث شهر أيلول الاتية من سجل التاريخ يبرز حدث تصفية بشير الجميل 14 أيلول 1982 كإشارة بشارة الى انه، ومهما ساد الظلام، ينبثق نور مفاجئ للأمل، لا نعرف من اين وكيف. لكنه وفي اللحظة التي تحاصرنا الظلمة من كل ناحية واتجاه. ينبثق.