ارث ترامب الثقيل وخيارات بايدن المحدودة: قراءة استشرافية للسياسة الامريكية بعد الانتخابات الرئاسية
عابد الزريعي
مدير مركز دراسات أرض فلسطين
استقطبت الانتخابات الرئاسية الامريكية، وللمرة الثانية، انظار العالم الرسمي وغير الرسمي. كانت الأولى عندما خاض أوباما الانتخابات كمرشح للحزب الديمقراطي ضد منافسه الجمهوري، وجاءت الثانية مع خوض جو بايدن مرشح الحزب الديمقراطي ونائب الرئيس السابق أوباما، ضد الرئيس الجمهوري الذي يدافع عن حظه في ولاية رئاسية ثانية. في المرة الأولى كانت نبرة النقاش ترتفع وتتسع ساحته، كلما أظهرت استطلاعات الراي ان أوباما أقرب الى الفوز من منافسه، وكان النقاش يتركز حول أمريكيا التي تتغير لتكون أكثر إنسانية وديمقراطية، في ظل تقبلها بان تحكم من قبل رجل من أصول افريقية قحة، مضاف اليه انحداره من صلب رجل مسلم، بكل ما ترتب على ذلك من مراهنات على التغيير نحو الأفضل خاصة تجاه العالم العربي والإسلامي. وفي المرة الثانية كانت نبرة النقاش ترتفع وتتسع أيضا، كلما أظهرت استطلاعات الراي ان المرشح الديمقراطي يتقدم على منافسه الجمهوري، ليس لأنه الأفضل وانما انتقاما من الرئيس الجمهوري المتجبر والمتكبر، صاحب قائمة الاوصاف السيئة الأطول على مستوى رؤساء العالم. وكان المضمون الأكثر اثارة في النقاش الدائر هنا وهناك، يتمثل في دهشة الاكتشاف، بان أمريكيا تكاد تشبهنا ــ اقصد عالمنا العربي ــ وان ديمقراطيتها التي خلبت بها ابصار وعقول الكثيرين مجرد اكذوبة، خاصة وان الرئيس السابق وعلى الرغم مما افرزته صناديق الاقتراع الا انه يرفض الاعتراف بها، ويلوح بالالتصاق بكرسيه لأربعة سنوات قادمة. ولأن ذلك يندرج في سياق ما يشبه المستحيل، فان التفكير يجب ان ينصب على ما يمكن ان يقوم به خلفه على ضوء الإرث الذي امامه، بملفاته الكثيرة والمتعددة. هذا المقال محاولة لاستشراف حدود التصريف السياسي للملف الصيني والإيراني والفلسطيني، من بين ملفات عديدة سيجدها جو بايدن على مكتبه لحظة البدء بممارسة صلاحياته الرئاسية.
أولا: ارث ترامب الثقيل:
المفارقة الأهم بين اللحظتين اللتين بدأنا بهما المقارنة، ان أمريكيا بغالبيتها العظمى توحدت حول أوباما، الى درجة ان مروره الى فترة رئاسية ثانية قد تم كسكين في قطعة جبن بسهولة وبلا ضجيج. اما بالنسبة لمحاولة الرئيس ترامب الفوز بفترة رئاسية ثانية، فقد انقسمت أمريكيا على نفسها، 70 مليون امريكي معه و76 مليون عليه. هذا الانقسام العميق بما يتراكم على حوافه من اصطفاف عنصري، ووضع اقتصادي صعب وصحي مريع جراء الغاء الرئيس الجمهوري لقانون التامين الصحي الذي يُعد أحد إنجازات أوباما، ومداهمة الوباء بدون سابق انذار وجاهزية للمواجهة. هو ارث ترامب الثقيل الذي تركه لبايدن؛ لكي يحمله على كتفيه ويصعد به جبلا عاليا قمته مغلفة بضباب كثيف. وهو الوتد المدقوق الذي ستربط اليه رجلي بايدن طوال السنوات الاربع القادمة، التي لا يمكن التكهن بملامحها، الا من خلال وعي ثقل هذا الوتد. أما الجانب الاخر من الإرث الثقيل الذي تركه ترامب فيرتبط بالسياسة الخارجية. ويتمثل في حالة عداء مع كل العالم تقريبا، اشتباك مع المنظمات الدولية الى حد الانسحاب منها، وبما يتناقض مع لحظة الهيمنة الامريكية التي كانت تؤكد سطوتها على العالم من خلال توظيف تلك المنظمات لمصلحة سياستها الخارجية. اشتباك مع الصين الند الاقتصادي الصاعد، بلا تردد نحو التربع على سدة القوة الاقتصادية الأولى في العالم. اشتباك مع الحلفاء الاوربيين، قرارات تتناقض مع قرارات أمريكية سابقة بشأن القضية الفلسطينية. تدخل سافر في شؤون أمريكا الجنوبية. قوات منتشرة في أكثر من مكان في العالم تخوض معارك غير قابلة للحسم. والقائمة تطول. تلك هي إضافة الى الوتد ساقية بايدن التي سيدور بها مرغما مستنزفا اغلب طاقته وجهده.
ثانيا: بايدن وعقب أخيل
السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه. ماهي أولويات بايدن على ضوء هذا الإرث.؟ ايهما أحق بالبدء في المعالجة الإرث الداخلي ام الخارجي.؟ ام التصدي للقضايا الداخلية والخارجية في ذات الوقت.؟ المنطق يقول ان دولة عظمى مثل الولايات المتحدة الامريكية، لا تستطيع إدارة ظهرها لما يحدث في العالم، ولا يمكنها ان تكون بلا سياسة خارجية فاعلة؟ والمنطق يقول أيضا ان الفاعلية في السياسة والساحة الخارجية هي امتداد لوضع داخلي ينضوي على درجة من التناسق والتماسك والتوحد.؟ بما يعنيه ذلك ان امة منقسمة على نفسها، من الصعوبة ان يكون لها حضور دولي قوي وفاعل في الساحة الخارجية. والتجربة التاريخية تقول أيضا ان الدول الامبريالية بطبيعتها الفاشية، كثيرا ما تهرب من ازماتها الداخلية، الى اشعال الحروب الخارجية. لكن اللجوء الى هذا النمط من المغامرات يحتاج أيضا الى اصطفاف داخلي مقبول حول الزمرة الحاكمة المدعومة من قبل الاوليغارشية المالية، وحالة الانقسام الأمريكي العميقة تنفي ذلك الاصطفاف. من المؤكد ان بايدن وامام هذه التحديات الداخلية والخارجية لن يقضي سنواته الأربعة ليتأمل زهور حديقة البيت الأبيض فقط، وانما عليه ان يفعل شيئا ويقدم حلولا لمشاكل كثيره حسب وعده لناخبيه. وفي هذا الصدد سيكون التركيز الأول والاساس على الوضع الداخلي، الذي ينضوي على ممكنات انفجار كثيرة وخطرة، بالتوافق مع الانكباب على الملفات الخارجية، وفي هذا الصدد ستتقدم ثلاثة ملفات على غيرها. وهي الملف الإيراني والصيني والفلسطيني وهي ملفات تتميز بتماسها مع الوضع الداخلي الأمريكي بشكل شديد بما يعنيه ذلك من ان الانكباب عليها في جوهره جزء من الانكباب على معالجة القضايا الداخلية، مع وجود فروق بين واحد والأخر، بما يستدعي اختلاف في طريقة التعامل.
ثانيا: الملف الإيراني والصيني: لا مواجهة ولا مهادنة:
يرتبط هذان الملفان بالوضع الداخلي الأمريكي باليتين مختلفتين، فالملف الصيني يطرح تحديا اقتصاديا، يتعلق بشكل مباشر بقضايا اقتصادية داخلية من ناحية، وبمستقبل موقع أمريكا الاقتصادي على خريطة العالم من ناحية ثانية، بكل ما يرتبط بذلك من إجراءات حمائية داخلية، واحتكاك خشن في منطقة جنوب شرق اسيا بشكل مباشر وفي مناطق أخرى من العالم بشكل غير مباشر. أما الملف الايراني فهو يرتبط في عمقه بعقلية الهيمنة الامريكية، التي لا تتخيل ان دولة من عالم تعتبره ثالثا، يمكن لها ان تتقدم وتتطور على المستوى التكنولوجي، خاصة وان السياسة الخارجية لهذه الدولة تمضي على خط نقيض للسياسة الامريكية، بكل ما يتعلق بها من قضايا، وفي المقدمة منها الموقف الإيراني من إسرائيل ووقوفها الى جانب القوى التي تقاومها، بما يعنيه ذلك من ارتباط هذا الملف وفي هذه الزاوية تحديدا بمؤيدي إسرائيل في أمريكيا، وبحلفائها في المنطقة. الامر الذي يجعل من كيفية معالجة هذا الملف، احدى وسائل توسيع قاعدة مؤيدي بايدن او تضييقها. خاصة وان وجود صيغة سابقة للمعالجة تمثلت في الاتفاق النووي الذي ابرم في عهد أوباما، ليأتي ترامب وينقضه، تطرح إمكانية ان تكون المعالجة بطريقة العودة للاتفاق. وبالنتيجة إدارة الظهر لإسرائيل والقوى الرجعية الخليجية تحديدا. أو المضي على ذات الطريق الذي رسمه ترامب والانجرار خلف الخيارات الإسرائيلية والخليجية. من الواضح ان الخيار المطروح امام إدارة بايدن لمعالجة أي من الملفين الصيني والإيراني، هي خيارات حدية، المواجهة او المهادنة، وتحمل دفع الثمن المترتب على أي منهما. لكن الأرجح وارتباطا بالوضع الداخلي الأمريكي ان خيارا ثالثا يبرز وهو الأكثر ترجيحا، ويتمثل في خيار ممارسة الضغط العالي على البلدين، بما يتجاوز حد المهادنة، ودون الوصول الى حد المواجهة السافرة. بهدف خلق حالة اشغال وارباك لكل من الصين وإيران، الامر الذي يوفر مساحة من الزمن تسمح بالانكباب على معالجة الأوضاع الداخلية المرتبكة. إضافة الى ان ذلك يشكل الية إرضاء لقطاعات أمريكية مهمة.
ثالثا: الملف الفلسطيني : بايدن وجني ثمار ترامب المسمومة.
من اجل استشراف الكيفية التي سيتعامل بها الرئيس الأمريكي الجديد مع الملف الفلسطيني ـــ الإسرائيلي، من الضروري الانتباه الى ثلاثة قضايا هي:
1 ــ ان الرئيس بايدن يشكل امتدادا لسلفه ترامب في دعمه وانحيازه لإسرائيل. فترامب يدعمها من خلفيه دينية انجيلية، وبايدن يدعمها من خلفية صهيونية سياسية.
2 ــ ان ترامب قد ساعد إسرائيل في تحقيق ثلاثة قضايا هامة، أولها تعميق الميل فيما يخص الملف الفلسطيني الى صالحها، وثانيا مراكمة مجموعة من الضغوط القصوى على القيادة الفلسطينية، وثالثها دفع مجموعة من الدول العربية للتطبيع معها، وتيسير السبيل لتموضع صهيوني جديد في المنطقة.
3 ــ ان القيادة الفلسطينية أقدمت على خطيئة سياسية، بإعادة التواصل مع إسرائيل، بما يعنيه دوران ملف التنسيق الأمني من جديد وغيره من القضايا، وإعادة سفرائها الى كل من الامارات والبحرين في توقيت عشوائي وفي لحظة فراغ في الإدارة الامريكية الامر الذي يفقدها الحدود الدنيا من القدرة على المساومة والمناورة.
القراءة المدققة لانعكاسات هذه القضايا على الطريقة التي سيعالج بها بايدن هذا الملف، تقود الى نتيجتين:
1 ــ ان بايدن سيمضي انطلاقا من عقيدته الصهيونية في دعم إسرائيل، مستفيدا الى حد كبير مما قدمه سلفه لها. بما يعنيه ذلك انه لن يتراجع عما تم إنجازه، وقد أتاح له قرار السلطة الغطاء المناسب، كون القرار في جوهرة يعبر عن حالة رضا، او لامبالاة عما يجري من حولها، الأمر الذي يعفيه من أي حرج. وسيمرر هذ الموقف من خلال إطلاق مجموعة من التصريحات التي تشير الى قرارات أمريكية سابقة بخصوص بعض القضايا المتعلقة بالملف، ومن غير المستبعد إعادة الدعم المالي الأمريكي للسلطة وإعادة فتح مكتبها في واشنطن، دون المس بمسار المتغيرات العميقة التي احدثها سلفه ترامب لصالح اسرائيل. وبهذا التوجه سيرث عن ترامب قاعدته الانتخابية الأساسية الكنيسة الانجيلية، أي انه سيدعم صهيونيته السياسية بصهيونية دينية توفر له إضافة لقاعدة اللوبي الصهيوني ضمانة لولاية ثانية بعد أربع سنوات.
2 ــ ان إسرائيل تعي ذلك جيدا، لهذا لا تبدو قلقة من بايدن على الرغم من تفضيلها لترامب، وستحاول الاستفادة من الموقف الأمريكي في تحقيق كثير من المكتسبات، سواء على صعيد تعميق علاقاتها مع دول الخليج الى الحدود القصوى، وبأبعاد استراتيجية خطيرة يصعب الفكاك منها، والاستفادة من ذلك في توسيع دائرة التطبيع العربي. اما على المستوى الفلسطيني فستعيد طرح فكرة مفاوضات من غير شروط مسبقة، وهي الفكرة التي تجد هوى لدى الإدارة الامريكية الجديدة. بمعنى لا التزامات قديمة ولا جديدة، ومن ناحية أخرى ستراكم وقائع استيطانية واجرائية جديدة على الأرض، وخاصة في القدس ومناطق الاغوار المرشحة للضم. ولن تتحدث كثيرا في الضم ولا عنه لكنا ستمارسه كحقائق. وبمعنى ادق ستقوم بتنفيذ هادئ لصفقة القرن، التي لن يتردد اسمها كثيرا في وسائل الاعلام، لكنها ستتقدم لتتجسد على الأرض.
خاتمة: ان تركيز الإدارة الامريكية القادمة على معالجة الوضع الداخلي بوصفه أولوية تتقدم على ما عداها، لن يمنعها من الاهتمام بالملفات الخارجية، من اجل الحفاظ على الحضور الأمريكي لكنها لن نجترح المعجزات في هذا الجانب خاصة في الملفين الإيراني والصيني، وسيراوح فعلها بين المهادنة والمواجهة فقط ن اجل ادامة الاشتغال والاشغال. اما بالنسبة للملف الفلسطيني فمن الجلي انها ستحصد وهي سعيدة ما زرعه الرئيس السابق ترامب. الذي سيكون سعيدا رغم مرارة الهزيمة وهو يرى الصفقة التي وعد بها تنفذ على الأرض من غير ضجيج، وعلى امل ان يحفظ له الانجيليون الجميل ويصوتون لصالحه في انتخابات 2024 التي يبدو ان لديه النية لخوضها.