ارض فلسطين تناحرية الصراع بين خوارزميات التطهير وإرادة الوجود
د. وائل الزريعي – مركز دراسات ارض فلسطين للتنمية و الانتماء
منذ النكبة تصطدم المشاريع الإمبريالية والصهيونية لمحو الذاكرة وتزييف التاريخ وتهويد الجغرافيا الفلسطينية، بمقاومة الشعب الفلسطيني لكافة المحاولات لطمس هويته وابادته جسديا وثقافيا، لتتحول مقولة شعب بلا ارض لأرض بلا شعب من لبنة أساسية للمشروع الصهيوني الجاسم على صدر الشعب الفلسطيني منذ 76 عاما، الى كابوس دائم يقض أحلام السياسي الصهيوني، وهشيم يتفتت على صخرة الوجود الفلسطيني على الأرض.
لقد مثل اخلاء ارض فلسطين التاريخية من سكانها هدفا استراتيجيا للمشروع الصهيوني، وهو ما خطط ودبر في 10 مارس عام 1948، تحت عنوان الخطة “دالت” كخطة استراتيجية لقيام دولة يهودية القومية، و في سبيل الوصول للهدف المنشود اعتمدت العصابات الصهيونية كافة اشكال الإرهاب، والاخلاء العدائي، من تدمير للقرى والتجمعات السكانية، واستخدام الترويع من قتل وحرق واغتصاب للدفع بأكبر كتلة سكانية خارج حدود الدولة الصهيونية، لقد استغرق تنفيذ الخطة دالت ستة أشهر للتخلص من نصف سكان فلسطين التاريخية، وتحويلهم الى لاجئين في اصقاع الأرض، ومازالت دوائر الاحتلال تحارب السردية التي تروي ابعاد هذه الجريمة، على الرغم من شهادات بعض المؤرخين والمشاركين في الجريمة من داخل الاحتلال والتي تؤكد حقيقة ما حدث، في مواجهة سردية صهيونية توصف الفعل بكونه (حرب تحرير)، وان المعركة فرضت على اليهود في مواجهة الهجمات من العرب. منذ وضع الخطة (دالت) وتنفيذها والاحتلال يمارس جرائمه وفق نسقية تهدف لخلق حيز جغرافي متجانس عرقيا، هذا الحيز عليه ان يتسع بدون توقف، حتي يطرد أصحاب الأرض و يفسح المجال للمزيد من الصهاينة، فلا يوجد توصيف لهذه السياسة الممنهجة، منذ النكبة سوى كونها سياسة تطهير العرقي، و هي سياسة تتبدل اليات تنفيذها وفق المتغيرات الدولية و بتبدل الحكومات المتعاقبة على دولة الاحتلال، و لكن يبقى الهدف الأساسي هو افراغ ارض فلسطين من سكانها الأصليين، لكن مع صعود حكومة اليمين المتطرف برئاسة مجرم الحرب نتنياهو وفي ظل قانون يهودية الدولة أصبح الطريق الى الهدف لابد ان يمر عبر جسد الشعب الفلسطيني دون مواربة، فاطلق العنان للاستيطان في الضفة الغربية و القدس، و تحولت قرية بدوية لا تتوفر على ادنى ظروف الحياة الى هدف لدولة الاحتلال ليتم هدمها اكثر من مئتي مرة، و بذلك تكون قرية العراقيب شاهدة على الوجه الحقيقي لعنصرية الكيان، واهدافه القائمة على اخلاء ارض فلسطين التاريخية من سكانها بشتى السبل، اما قطاع غزة و الذي تشكل كتلته السكانية غصة في حلق الاحتلال فهو عرضة لسياسات مختلفة منذ النكبة، و التي كان من انعكاساتها الديموغرافية زيادة سكان القطاع ثلاث مرات، فمن بين 750000 فلسطيني طُردوا إلى المنفى بين سنتي 1947 و1949، لجأ إلى قطاع غزة نحو 200.000 فلسطيني ليشكلوا في الوقت الراهن حوالي 80 بالمئة من سكان القطاع. منذ ذلك الحين والاحتلال يتبع سياسات مختلفة تجاه قطاع غزة هدفها النهائي التخلص من اكبر كتلة سكانية، من خلال الاحتلال المباشر، او اصدار قوانين تمنع حق العودة، الى الحصار الخانق، مع خلق جميع الظروف التي تدفع سكان القطاع للهجرة فتشير الاحصائيات لمغادرة ما بين 185000 الى 200000 من سكان القطاع، أي حوالي 10 بالمئة من السكان خلال سنوات الحصار، ولا مانع لدى الاحتلال من تحفيز هذه الهجرة بين فترة و أخرى من خلال الحروب التي تشن على قطاع غزة في إبادة للحجر و البشر، فساسة الاحتلال لا يضيعوا فرصة لمواجهة ملف الديموغرافيا عبر التطهير العرقي، لذلك فمنذ السابع من أكتوبر، وتحت ذريعة القضاء على المقاومة واستعادة الاسرى يتم إعادة تفعيل الخطة “دالت”، والتي لم تغادر ادراج ساسة الاحتلال، و يعود الهدف الاول الذي صاحب ولادة الكيان الصهيوني، و هو استكمال مخطط التطهير العرقي في فلسطين، و تحديدا في قطاع غزة و الذي يعد تحدي ديموغرافي بكتلته البشرية المقدرة ب 2141000 نسمة أي حوالي 40 من الفلسطينيين داخل حدود فلسطين التاريخية. خلال العدوان الحالي على قطاع غزة يقوم الاحتلال باستخدام الذكاء الاصطناعي لهندسة الإبادة و التطهير العرقي والقضاء على اكبر قدر ممكن من السكان العزل، فيعترف مجرمي الكيان بان منظومة الذكاء الاصطناعي “غوسبل” تمتاز بكونها مصنع للاغتيالات الجماعية ، و يصفها الناطق باسم جيش الاحتلال بكونها “مصنع أهداف يعمل على مدار الساعة”، و انه عند أي ضربة عسكرية ضد السكان المدنيين يتوفر لديهم بشكل مسبق تقدير لعدد الضحايا، ففي اليوم السابع و العشرين للعدوان على قطاع غزة، قام جيش الاحتلال بتحديد 12 الف هدف مدني باستخدام الذكاء الاصطناعي. لقد تدربت “منظومة غوسبل” وغيرها من أدوات الذكاء الاصطناعي على الإبادة و التطهير العرقي على يد العصابات الصهيونية المتعاقبة على ارض فلسطين منذ النكبة، وتشربت بفكر المجرم بن غوريون الذي خط مشروع دولة يهودية قومية على ارض فلسطين بدماء الشعب الفلسطيني عام 1948 رافعا شعار (العرب يجب ان يرحلوا)، حيث تفضح الأرقام بعد تسعة اشهر من العدوان حجم الاستهداف لسكان قطاع غزة، و الذي القي عليه ما يقارب80 الف طن من المتفجرات، و بلغت مجازر الإبادة ما يقارب 3400 مجزرة اغلب ضحاياها من النساء و الأطفال، تم هندسة العدوان على غزة لإفراغ القطاع من سكانه من خلال احداث اكبر قدر من الدمار لكافة مناحي الحياة، وتدمير جميع المرافق الصحية و تعميق الكارثة من خلال نشر الأوبئة باستهداف قنوات المياه الصالحة للشرب و شبكات الصرف الصحي، وكذلك ملاحقة السكان و النازحين في كل مكان باستخدام طائرات الكواد كابتر، و بذلك يكون العدوان الحالي على قطاع غزة هو اول حروب التطهير العرقي ضد الانسان باستخدام الذكاء الاصطناعي. منذ السابع من أكتوبر والاحتلال يدق طبول الحرب، معتقدا ان الظروف أصبحت مواتية لاستئناف الخطة دالت، عبر حملة للتطهير العرقي استخدم فيها جيش الاحتلال كافة السبل من قتل و تشريد و تجويع لإبادة ما يقرب من 2 بالمئة من سكان غزة، مع الدفع ب100 ألف شخص الى خارج القطاع، أي حوالي 5 بالمئة من السكان. لكن من الواضح ان المحتل الصهيوني لم يقرأ التاريخ، ولم يستوعب الدروس التي لقنتها الشعوب الحرة في فيتنام والجزائر وغيرهما من الشعوب المناهضة لقوى الشر والاستعمار الامبريالية الامريكية والفرنسية ومن سلك طريقهما، في سرقة أراضي الغير . هذه القوى الامبريالية التي وصفها الجنرال جياب بطل الحرب الفيتنامية في زيارته عام 1976 الى الجزائر المستقلة، وهو القادم من فيتنام المستقلة بانها اسوء التلاميذ في مدرسة التاريخ، لذلك تحتاج ان تلقن الدرس تلو الدرس. الاحتلال الصهيوني لارض فلسطين هو اسوء تلاميذ الامبريالية واغباها، فهو يواجه شعب يخوض معركته متسلحا بذاكرة تاريخية محفور فيها 76 عام من اللجوء و النزوح و التآمر على حقوقه الوطنية، شعب ادرك ان أي حوار مع هذا الكيان هو حوار بين السيف والرقبة، وان ارض فلسطين لا تتسع لهويتين. فهي تناحرية الصراع بين صاحب الأرض وسارقها، صراعا لن تكون الغلبة فيه الا للحق وهي سنة التاريخ وقدر الجغرافيا.