البعد الشعبي في أدب غسان كنفاني.. فرضيات نقدية أولية
عابد الزريعي
مدير مركز دراسات أرض فلسطين للتنمية والانتماء
تميز غسان كنفاني ككاتب ومبدع بسمتين رئيسيتين. تمثلت الأولى في اتساع دائرة المجالات الإبداعية والكتابية التي تطرق اليها، فمن التخطيط والرسم الى الكتابة السياسية والبحث التاريخي، والكتابة النقدية التي شملت كل نواحي الابداع الادبي، باستثناء الشعر الذي لم يصلنا شيئا ينسب اليه حتى اللحظة، وقد تفاجأنا الأيام بما لا نعرف في هذا الجانب. وتمثلت الثانية في كثافة وغزارة انتاجه الى الحد الذي جعله ينشر بأكثر من اسم في ذات اليوم، وأحيانا في ذات وسيلة النشر. وتتبدى هذه الكثافة بشكل جلي إذا ما تمت قرأتها بشكل متوازي مع عمره القصير الذي لم يتجاوز الخامسة والثلاثين. ذلك جعل منه محط اهتمام الكتاب والنقاد، وكذلك على مستوى الدرس والبحث الجامعي، حيث تم اعداد عشرات دراسات الماجستير والدكتوراه حول ادبه، ومازال الموضوع مفتوحا لعديد الأبحاث. وهي مسألة تتجاوز في دلالاتها كونه اديبا فلسطينيا تم اغتياله على يد العدو الصهيوني بطريقة بشعة، الى القول ان غسان كنفاني ترك خلفه منجما ادبيا عميق الاغوار متعدد الطبقات، كلما اعتقد الباحثون انهم توصلوا الى عمقه الابعد فوجئوا بطبقة أخرى أكثر بريقا وغنى وكثافة.
ومن بين طبقات ادب غسان كنفاني الغنية والخفية، والتي تبث سحرها وفتنتها في كل نصوصه، وتغري بقراءته مرة وأخرى للمتخصصين وغير المتخصصين، تلك الطبقة المنغرسة في عمق الثقافة الشعبية. والملفت للنظر ان اغلب الدراسات لم تتوقف امامها او لم تنبه اليها بما يكفي. ونستطيع تلمس قشرة هذه الطبقة من خلال مجموعة من التقاطعات المفصلية بين روايات غسان كنفاني والحكايات الشعبية ببنيتها الفنية المعروفة. ويمكن رصد هذه التقاطعات بشكل اولي فيما يلي:
أولا: البناء الخطي الثلاثي: اغلب روايات غسان ذات بنية ثلاثية خطية، تمضي فيها الحكاية بشكل متصاعد بسلاسة وبدون تعقيدات، من بداية تمهيدية، ووسط تتبدى فيه العقدة الدرامية، ثم نهاية تتضمن حلا مفتوحا او مغلقا، وبعض الالتفاتات الى الوراء الا في الحدود الدنيا، وبهدف الإضاءة على الاحداث المتطورة. مثل رواية ما تبقى لكم فان الاشتغال على تيار الوعي يكاد يكون بسيطا، ويقترب وطريقة الحكاية الشعبية، التي تتبدى من خلال التفاتات الراوي بين فينة وأخرى. «ويرجع مرجوعنا” ثم يواصل الحكي. هذه البنية الخطية الثلاثة في مسارها العام، تكاد تكون أخص خاصيات الحكاية الشعبية على مستوى البناء الفني.
ثانيا: البطولة الملحمية: كأحد سمات بناء الشخصيات في الحكاية الشعبية، والتي تتبدى ملامحها وقد نحتت من منظومة قيم فعل ونهوض وتحدي. الامر الذي نتلمسه بشكل جلي في رواية عن الرجال والبنادق، التي ترسم صورة ملحمية لثورة 1936.
ثالثا: العبرة الباقية: فالحكاية الشعبية كحكاية غائية، غالبا ما تترك في وعي المتلقي عبرة سواء بشكل مشهدي او لغوي. وهو من القوة التأثيرية التي لا تجعله يعلق بالذاكرة فقط، وانما يضبط بشكل غير مباشر مسار حياة. ولذلك اتسمت الحكاية الشعبية بوظيفتها التربوية. لقد مضت روايات غسان في ذات الاتجاه، وجمعت بين العبرة المشهدية واللغوية بشكل مثير. في رجال في الشمس، وأبو الخيزران يواجه الجثث المختنقة في الخزان، وسؤاله وهو يهم برميها على المزبلة: لماذا لم يدقوا جدار الخزان.؟ حامد وهو يقف منتصبا في الصحراء، وبيده قبضة رمل في مواجهة الجند المدججين، يتبادر الى الذهن الأرض تقاتل مع أصحابها. مشهد ام سعد في مواجهة المختار، وهي تقول: خيمة عن خيمة تفرق.. دوف في عائد الى حيفا وهو يختم الحوار العبثي مع والده بالدم: هذه المسألة لا تسوى الا بحرب. هذه المشاهد تبقى عالقة بالنفس والذهن بالضبط مثل نهايات الحكايات الشعبية التي تبقى عالقة في وجدان المتلقين.
رابعا: المرونة الوظيفية: تتسم الحكاية الشعبية وهي تؤدي وظائفها بالمرونة التطبيقية القادرة على استيعاب عشرات الاحداث على مسار الزمن. ولذلك تبقى الوظيفة قائمة وان تغير الحدث ذاته الذي تدور حوله، وهذا مصدر بقائها واستمرارها، بل وتجاوزها الحدود الوطنية الى العالمية. وإذا دققنا في روايات غسان كنفاني وعلى الرغم من انها كتبت في البيئة الفلسطينية، وكلها تدور حول القضية الفلسطينية الا انها في دورها الوظيفي تتجاوز الى العالمية. وهي مسألة تبتعد عن التضخيم وتنحصر في الترسيم الدقيق البعيد عن المبالغة. لنستعيد المشهد الختامي في رجال في الشمس سنجده مستوعبا لكل مراكب وشاحنات الهجرة التي تدفقت في العقود الثلاثة الأخيرة في مختلف بلدان العالم، بحثا عن الخلاص وانتهت بشكل مأساوي. لنستعيد مشاهد المواجهة على الأقل في الروايات التي أشرنا اليها سنجد انها تستوعب كل عمليات النهوض والمواجهة الإنسانية على اتساع الكرة الأرضية.
هذه الملاحظات الأولية إذا كانت مجال اتفاق ولو بالحدود الدنيا، تطرح سؤالا حول علاقة غسان بالأدب الشعبي، ومصادر تلك العلاقة، بل هل كان معنيا بذلك.؟ نتعرف على علاقة غسان كنفاني بالأدب والثقافة الشعبية الفلسطينية من خلال دراسته حول ثورة 1936. التي ركز من خلالها على التغير في الوعي الشعبي كأحد أسباب الثورة، الى هنا يبدو الموضوع عاديا، لكن غير العادي ان يتلمس غسان هذا التغير من خلال الامثال الشعبية، ملتقطا نوعية الامثال التي بات الناس يرددونها عشية الثورة، بالقياس الى الامثال التي كانوا يرددونها في فترة الركود. ليس المهم هنا الإجابة على سؤال كيف اختبر غسان ذلك تجريبيا؟ لكن المهم اننا امام مبدع يحتل التراث الشعبي جانبا مهما من تفكيره، وبالتأكيد ان من يطل على الادب الشعبي لن يتوان على الاطلال المتعمق في مختلف نواحي الابداع الشعبي والحياة الشعبية. الجانب الاخر في علاقة غسان كنفاني بالأدب الشعبي ناتجه عن كونه لم يكن بعيدا عن المخيم الذي شكل مصدر الهام لكتاباته السياسية والابداعية، ودون الغوص في تفاصيل هذه الناحية، فمن المعروف ان شخصية ام سعد الفنية تعود الى شخصية من لحم ودم وكانت على علاقة وتواصل مباشر مع اسرة غسان كنفاني. وبالنتيجة أصبحت هذه الثقافة جزء رئيس من رصيده المعرفي وذاكرته الوجدانية العميقة، وإذا اضفنا الى هذه المسألة اختيار غسان لان يكون اديبا ملتزما بقضايا شعبه الذي يخوض معركة تحرر وطني، ندرك ان الوعي والمعرفة بالثقافة الشعبية ليست حلية بالنسبة له، وانما أداة فعل وتعبئة جماهيرية. وفي ذا الجانب يمكن ان نجد إجابة على سؤال: لماذا يبقى ادب غسان كنفاني متجددا دوما.؟ ونختم بان ما طرحناه ليس سوى ملاحظات أولية تحتاج الى بحث تفصيلي وأكثر عمقا وتدقيقا.