الحج إلى معبد الغريبة في تونس بين الطقوس الدينية اليهودية والرسائل السياسية الإسرائيلية
د . عابد الزريعي
تعيش جزيرة جربة السياحية الواقعة في الجنوب التونسي، كل عام على وقع تدفق آلاف اليهود القادمين من بلدان عديدة، بهدف أداء شعائر الحج في معبد الغريبة الذي يعتبرونه المعبد الأقدم في العالم حيث يعود تاريخ تشييده ـــ حسب المصادر اليهوديةـــ إلى العهد الروماني. وغالبًا ما يشارك في هذا الموسم بعض السياسيين التونسيين، وذلك للظهور بمظهر المتسامحين مع أصحاب الديانات الأخرى، ودون أن يخلوا الأمر من تسويق للذات السياسية. وعلى وقع الموسم ذاته أيضًا تتنامى مشاعر السخط والتذمر لدى أوساط سياسية وشعبية، لأنها ترى فيه نوعًا من التطبيع السياحي والديني مع الكيان الصهيوني، الذي لم تنقطع مشاركة بعضًا من مواطنيه في هذا الموسم سواء من مزدوجي الجنسية أو القادمين بجنسيتهم الصريحة.
وخلافًا لكل المواسم السابقة فقد جاء هذا الموسم الذي دشن يوم 22 مايو 2019 على وقع ثلاثة أحداث هامة جعلت منه مناسبة نادرة للاستغلال والتوظيف، ومحطة لتوجيه عديد الرسائل التي تتجاوز في دلالاتها الجغرافيا الوطنية التونسية إلى الجغرافيا العربية العامة. الأمر الذي جعل منه مهرجانًا سياسيًا أكثر من كونه مناسبة لأداء طقس ديني. وقد تمثلت تلك الأحداث بالتالي:
أولًا/ على المستوى الوطني التونسي: جاء موسم الحج بعد تعيين روني الطرابلسي وزيرًا للسياحة، وهو تونسي ينتمي للديانة اليهودية، بما رافق هذا التعيين من جدل حول التطبيع ومطالبة الناشطين السياسيين بإقالة الوزير وإصدار قانون يجرم التطبيع مع إسرائيل.
ثانيًا/ على المستوى العربي: جاء الموسم بعد الإعلان الأمريكي بتاريخ 19 مايو2019، عن انعقاد ورشةالبحرين للسلام والازدهار في 25 يونيو 2019، وذلك في خضم الحديث عن صفقة القرن بكل ما فجره ذلك من وعي بالمخاطر المحدقة بالقضية الفلسطينية، وما خلقه من تحفز على مستوى الوجدان القومي الشعبي ضد الولايات المتحدة وإسرائيل وأنظمة الرجعية العربية.
ثالثًا/ على المستوى الديني الإسلامي: توافق موسم الحج للغريبة وللمرة الأولى منذ 32 عامًا، مع شهر رمضان المبارك. بكل ما يتضمنه ذلك من مشاعر دينية متسامحة ومتحفزة، فيما يتعلق بأية علامات للعلاقة مع الكيان الصهيوني.
إن الكيفية التي يتم بها التعامل مع الموسم، من زاوية الترويج وحدود الاستفادة، من قبل الأطراف المباشرة وهما الجانب التونسي الرسمي الظاهر في واجهة المشهد، والجانب الإسرائيلي المختفي خلف ستار المراقبة من بعيد. وفي ظل الأحداث الثلاثة المشار إليها تندرج في أحد خيارين، يتمثل الأول في النظر إليه كحدث طقوسي يتكرر كل عام، وتغطيته بشكل عادي مثلما كان يحدث في كل مرة، ونسيانه بعد إغلاق الستار على آخر أيامه. بينما يتمثل الثاني في اعتباره حدثًا استثنائيًا يستحق تغطية استثنائية بكل ما يترتب على ذلك من تأجيج مواقف ومشاعر الرفض ضد إسرائيل.
الآن وقد انقضى الحدث وبات جزءًا من الماضي القريب، يمكن القول بإطمئنان أن الجانب التونسي قد حاول المضي باتجاه الخيار الأول القائم على التجاهل والتغاضي وعدم الإثارة، وهو النهج الذي سار عليه طوال المواسم السابقة، لأنه يريد أن يتجنب الاتهام بالتطبيع وما يترتب على ذلك من ردود فعل داخلية. وفي هذا السياق يأتي نفي وزارة الداخليّة دخول سياح إسرائيليين إلى التراب التونسي بمناسبة الزيارة السنويّة لمعبد “الغريبة”.
أما إسرائيل فقد أزاحت الستار عن وجهها ومضت وعلى غير عادتها أيضًا، باتجاه الخيار الثاني، ليتحول الحدث على يديها إلى مهرجان ومنصة سياسية أرسلت من فوقها عديد الرسائل المرتبطة في دلالاتها باللحظة السياسية التي جاء موسم الحج في ظلها؛ الأمر الذي تجلى في قيام الصحفية الإسرائيلية رينا متسليح بتوثيق وقائع الرحلة في تقرير تلفزيوني، تم عرضه في نشرة الأخبار المركزيّة على القناة 12 الإسرائيلية، بكل ما ترتب على ذلك من ردود أفعال غاضبة ورافضة في أوساط الجماهير التونسية، الأمر الذي يدفع للتساؤل عن الأسباب التي دفعت إسرائيل إلى هذا الاحتفاء والرسائل التي سعت إلى تبليغها والفوائد التي أرادت جنيها. ومن خلال التدقيق في فحوى مضمون شريط الزيارة التوثيقي يمكن للمرء أن يستخلص مجموعة رسائل هامة واستراتيجية أرادت إسرائيل تبليغها وهي:
أولًا/ التطبيع درب الخلاص: فقد ربطت الصحفية في تقريرها بين ثلاثة قضايا، أولها، الوضع الصعب الذي يمر به الاقتصاد التونسي؛ والثاني، السماح بزيارة الإسرائيليين “مرة واحدة في العام على الأقل” كجزء من السياسة التونسيّة؛ والثالثة، وزير السياحة التونسي وهو يلقي كلمة وقد أحاط يه مئات الإسرائيليين. ومن خلال هذه الثلاثية فإنها تؤشر إلى أن العلاقة مع إسرائيل أو التطبيع هو طريق الخلاص من الأزمة الاقتصادية لأي بلد عربي، وأن اليهودي هو المنقذ لاقتصاد هذه البلدان، وهي الفكرة التي ركز عليها الإعلام الإسرائيلي عندما تم تعيين الطرابلسي وزيرًا للسياحة.
ثانيًا/ العقائد قابلة للتغيير: ركز التقرير بشكل ملفت على دور رجال الأمن التونسي واهتمامهم، بحماية السياح اليهود. وتعمد بث صورهم وهم يتفقدون الحافلة ويؤمنون سلامة الحجيج، كما تم التقاط صورًا تذكارية مع بعضهم، وذلك في سياق التأكيد على إن الحافلات التي تقل السياح اليهود الذين يأتون إلى تونس تحاط بإجراءات أمنيّة مكثفة من الأجهزة الأمنيّة التونسيّة.
إن التركيز على هذه المسألة وإبرازها يتجاوز حيادية العرض إلى قصدية النتيجة، وبث إشارة مفادها أن العقيدة الأمنية والعسكرية التي بنيت عليها المؤسسة الأمنية والعسكرية العربية قابلة للتغيير والتبديل، فهذا رجل الأمن يتحول ببساطة إلى حامي أو حارس للإسرائيلي ـــ اليهودي. وإذا ربطنا هذه المسألة بآلية الاشتغال على بناء أجهزة الأمن الفلسطينية بعد اتفاق أوسلو نستطيع أن نتلمس جوهر القصد في الفكرة الموجهة للتقرير.
ثالثًا/ يد إسرائيل الطويلة: يتبدى ذلك في إشارة التقرير إلى زيارة بيت خليل الوزير “أبو جهاد” الذي اغتيل في تونس العاصمة 16 ابريل 1988، حيث قالت الصحفية “أن المُرافق السياحي تكلّم بصوت خافت عن الموضوع كي لا يُثير حفيظة التونسيين”. وبغض النظر إن كان الحجاج قد تمكنوا من دخول البيت أم لم يتمكنوا، إلا أن مجرد إيراد اسم أبو جهاد لم يكن أمرًا عفويًا؛ لأن إيراد الاسم سيستدعي حالة من الجدل حول صحة الواقعة “زيارة المنزل” وهو الأمر الذي حدث، بما في ذلك نفي الداخلية التونسية لتجول الزوار بالقرب من المنزل. لكن المؤكد أن هذا الجدل قد شكل منصة ترويج واستعادة ليس فقط لحادث اغتيال أبو جهاد، بل للحوادث المشابهة على الأرض التونسية؛ مثل غارة ضاحية حمام الشط جنوب العاصمة التونسية، في الأول من تشرين الأول/أكتوبر عام 1985، واغتيال المهندس محمد الزواري في ديسمبر/كانون الأول 2016، بمدينة صفاقس جنوبي تونس. وكثير من الأحداث المشابهة على الأرض العربية أيضًا. وفي هذا السياق تكون الرسالة واضحة الدلالات، ومفادها أن إسرائيل تبقى صاحبة اليد الطُولى القادرة على الوصول إلى حيث تريد وتوجه الضربة لمن يعاديها. وقد جاء ابتهال السيدة الإسرائيلية بالدعاء لجنود جيش الاحتلال الإسرائيلي، راجية من الله أن يحفظهم وأن يكونوا بخير آمنين سالمين، وهتافها “تحيا إسرائيل.. تحيا تونس”، بمثابة تأكيد على ذلك، لا سيما وإنها لم تكن تهتف بعفوية أو في حالة انفعال تفقدها السيطرة على اللغة واختيار المفردات.
رابعًا/ حقوق اللاجئين اليهود: أفرد التقرير مساحة لزيارة بعض اليهود الإسرائيليين منازل ذويهم قبل أن يتركوها ويلتحقوا بدولة الكيان. وفي هذا السياق أكد على مجموعة قضايا، أولها، أن بعضهم تحدث باللهجة التونسية. وثانيها، أن التونسيين ساعدوهم في التعرف على أماكن منازلهم في تونس وقاموا بدور الدليل لهم. وثالثها، أنهم لم يتسنَ لهم العثور على قبور أجدادهم الذين ماتوا في تونس قبل عشرات السنين. ورابعها، أن المشهد بحيثياته تكرر في أكثر من مدينة تونسية. والملاحظ أن أكثر من كاميرا كانت توثق رحلة البحث هذه.
إن القضايا الأربعة المشار إليها تدفع للاستنتاج بأن العملية كانت عبارة عن توثيق ارتباط وملكية سابقة بحضور شاهد، وذلك من أجل إنجاز ملحق لملف تعويض اللاجئين اليهود من البلدان العربية، وهو الملف الذي يتم الاشتغال عليه بمثابرة وجهد أكبر مما يتصور. فقد أصدر الكنيست الإسرائيلي في العام 2010 قانونًا ملزمًا للحكومات الإسرائيلية بتضمين ملف “تعويض أملاك اليهود” في أي مفاوضات سلام تجريها مع الدول العربية، وكلفت منظمات للمتابعة منها منظمة تدعى “العدالة لليهود من الدول العربية” تم تشكيلها عام 2012، وعقدت مؤتمراً لهذه الغاية. كما كلفت وزارة العدالة الاجتماعية ووزارة المتقاعدين الإسرائيليتين، بمتابعة الملف وتوثيق الروايات وتقديم إفادات متعلقة بالأملاك. وكذلك استعانت السلطات الإسرائيلية بخدمات مكتب محاسبة دولي لتقدير قيمة هذه الممتلكات والأصو. التي قدرت بناء على القيمة السوقية الحالية بحوالي 250 مليار دولار، منها حوالي 35 مليار دولار من تونس، وتشمل القائمة دولًا عربية أخرى.
وختامًا ننتهي بثلاثة استنتاجات هي:
أولًا: إن الطابع الديني الذي يحف بمواسم الحج وزيارة الأماكن المقدسة لم يكن بالنسبة لإسرائيل أكثر من مدخل للتسلل إلى البلدان العربية، ولذلك لن تتوانى عن الإدعاء بوجود أماكن يهودية مقدسة في هذا البلد أو ذاك لتوظيفه في هذا السياق.
ثانيًا: إن إسرائيل وبالاعتماد على بعض السياح المرتبطين بالمؤسسة الرسمية الإسرائيلية وسبق لهم تأدية الخدمة الاجبارية في المؤسسة العسكرية، قد استطاعت توظيف موسم الحج اليهودي إلى معبد الغريبة بتونس 2019، وتحويله إلى منصة إطلاق وتوجيه رسائل سياسية تمثل جزءًا هامًا من استراتيجيتها للتغلغل والهيمنة على الوطن العربي.
ثالثًا: إن هذه الرسائل بمضامينها ودلالاتها الاستراتيجية لا تعني تونس فقط، وغنما هي رسائل تستهدف الوطن العربي بمجمله، لا سيما وإنها شديدة الارتباط بمجل الأحداث الجارية في المنطقة خاصة الزخم المتمثل في خطة التصفية الأمريكية للقضية الفلسطينية وبسط الهيمنة الإسرائيلية على الوطن العربي والمعنونة بصفقة القرن