مقالات و دراسات

الخطاب الإعلامي وآليات انتهاك المعنى – صفقة القرن أنموذجا

أ.شادلي عبدالحق/ اكاديمي و باحث في قضايا الاعلام – الجزائر

مقدمة :
لقد بات مصطلح الصفقة الأكثر استخداما وانتشارا لوصف الجهود الأمريكية في التوصل إلى اتفاق سلام مفبرك بوصفه حلا للصراع الفلسطيني–الإسرائيلي خلال العامين الماضيين وانتشر المصطلح في وسائل الإعلام كانتشار النار في الهشيم، إذ دخل مصطلح الصفقة إلى نطاق وسائل الإعلام وشغل الرأي العام العربي والفلسطيني بالتحديد، وتنوعت ردود الأفعال الشعبية والدولية عليها، وحسب عمر أبو عرقوب فإنه كثيرا ما كانت وسائل الإعلام تتداول المصطلح إلا أن الطرف الوحيد المتحكم في غموض المصطلح ودلالته والمسؤول عن تدفقه في العالم هو الجهات الرسمية الأمريكية التي بدأت بالحديث عنه ضمنيا بعد تولي الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب الرئاسة الأمريكية في نهاية عام 2016، إلا أنه حتى نهاية عام 2018 لم يطرح أي تصور واضح رسمي حول “صفقة القرن” في وسائل الإعلام.
1- الإستراتيجية الإعلامية المتبعة لتسويق صفقة القرن:
لطالما لعب الإعلام ووسائله دورا خطيرا في التأثير على الجمهور وتغيير أفكاره وتوجهاته، خدمة لأطراف معينة، وهذا ظاهر وجلي في التسويق الإعلامي لصفقة القرن خدمة للطرف الإسرائيلي، وسعي القائمون على الخطاب الإعلامي إلى إظهار الطرف الأمريكي على أنه يلعب دور المخلص والمنقذ، ومحاولة الجهات الرسمية الأمريكية ممارسة الدعاية الإعلامية السياسية قصد الضغط والتأثير على الرأي العام العالمي لتقبل مؤامرة القرن.
إذ أنه خلال عامي 2017-2018 بدأت ملامح ما بات بصفقة القرن بالتشكل من خلال التسريبات الإعلامية –المقصودة وغير المقصودة-التي نشرت جزءا مهما منها مواقع إسرائيلية، من جهة أخرى، سعت أمريكا إلى الضغط على الفلسطينيين للقبول بصفقة القرن “عمليا” وتقبّلها بوصفها أمرا واقعا بعد محاولات الترويج الإعلامي لها، والشيء الملاحظ أن السياسة الإعلامية الأمريكية اعتمدت على المراوغة الإعلامية بتحسين الصورة الذهنية لإسرائيل خدمة لمصالحها، وإظهار هذه الصفقة على أنها حل توافقي حسب زعمهم للصراع الإسرائيلي الفلسطيني من خلال خداع المتلقي وإيهامه بأن هذا الصراع بين طرفين متنازعين على الأرض، دون الأخذ بعين الاعتبار بأن التواجد الإسرائيلي الاستيطاني في فلسطين هو عدوان في حد ذاته على الشعب الفلسطيني.
وهذا الأمر ليس بجديد إلا أن ما يسمى بصفقة القرن هو عنوان جديد، فالدعم الأمريكي لإسرائيل ليس وليد اللحظة بل هو دعم تاريخي متجدر منذ 1948 ، فمحتوى الصفقة ليس بجديد ولو تغيرت البنود، لتبقى الخطوات الأمريكية تنسجم مع التوجه الاستعماري الإسرائيلي وانتهاكه للأرض والمقدسات.
في حين سبق الإعلان على هذه المؤامرة انتهاكات إعلامية خطيرة في حق القضية الفلسطينية، كان من بينها:
-التسويف الإعلامي بوصف الفلسطيني المدافع على أرضه وشرفه ودينه، على أنه إرهابي متطرف يستحق الأسر والقتل.
-التغليط الإعلامي بأن العدوان الإسرائيلي مشروع دفاعا عن مصالح إسرائيل.
-التعتيم الإعلامي على جرائم العدوان الصهيوني وانتهاكه لحقوق الإنسان على الأرض، خاصة العدوان الأخير على غزة باستخدام كافة أنواع الأسلحة.
-الترويج الإعلامي لفكرة القدس عاصمة إسرائيل، ونقل السفارة الأمريكية للقدس قصد التأكيد الضمني للدعم الأمريكي للعدوان الصهيوني.
-أما الانتهاك الإعلامي الخطير حسب ما أشار إليه لبيب قمحاوي هو التسويق الإعلامي لصفقة القرن، قصد إغلاق ملف القضية الفلسطينية نهائيا، وتهويد القدس وجعلها عاصمة للكيان الصهيوني، وجعل القدس خارج نطاق أي مفاوضات إذ ما كانت أي مفاوضات، وبالتالي تغليب منطق القوة على منطق الحق.
2- الخطاب الإعلامي العربي بين التهليل لصفقة القرن وخذلان للقضية الفلسطينية:
عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول:” إذا رأيتم أمتي تهاب الظالم أن تقول له إنّك لظالم فقد تودّع منهم”
هذا حال الأمة العربية اليوم التي لم تستطع أن تقف موقفا مشرفا داعما للقضية الفلسطينية، والوقوف في وجه العدوان الإسرائيلي ، بل إن التخاذل العربي ساهم وبشكل كبير في التآمر ضد القضية، والتسريع في تطبيق المخططات الخبيثة ضدها.
بل المشهد العربي يوحي بأن هناك تحامل من طرف بعض الدول العربية على القضية الفلسطينية من خلال المشاركة في دعم المخططات الهادفة إلى تعميق جراح الشعب الفلسطيني وتشتيته، بالانحياز إلى الكيان الصهيوني، في حين تشهد دول عربية أخرى عدم استقرار داخلي أدى إلى تغييب دورها المحوري في مساندة القضية الفلسطينية.
إذ يشير الباحث السوداني أحمد كردش إلى أنالظروف الراهنة التي تمر بها الدول العربية مثل انخفاض وزن ودور الدول الفاعلة منها على المستوى الإقليمي والدولي وضعف الأنظمة العربية وهشاشتها وفقدان العديد منها لشرعيتها أمام شعوبها وآثار الربيع العربي الذي شل حركة بعض البلدان وأثار بعض الفوضى في البلدان الأخرى ولا ننسى أيضا الخلافات العربية الداخلية كل هذه الظروف أسهمت في تردي الموقف العربي الرسمي من القضية الفلسطينية وجعل الدول العربية عاجزة عن الخروج بموقف رسمي رافض صراحة لخطّة ترامب -مع استثناءات نادرة كموقف الجزائر وسوريا- بالشكل الذي يعني انتهاء الموقف العربي التاريخي من ثوابت القضية الفلسطينية
فمن الواضح للعيان أن ترامب قد تلقى ضوءاً أخضراً من بعض العواصم العربية المهمة من خلال زيارات مكوكية ومحادثات سرية بشأن صفقة القرن وإلا لما كان عرضها بهذا الشكل لو كان يعلم أن هناك موقف عربي صلب رافض لها، وللأسف كانت مواقف بعض الدول الكبرى والدول الإسلامية أكثر حزما من مواقف دولنا العربية. هذا الموقف العربي الضعيف إن لم أقل المتواطئ من بعض العواصم والذي أدار ظهره للفلسطينيين شكل فرصة ذهبية وتاريخية لترامب ونتنياهو لاستغلال الحالة الراهنة لتصفية القضية الفلسطينية وفرض رؤية الاحتلال الإسرائيلي في أغلب الملفات الحساسة وترك بعض الفتات للفلسطينيين.
وتزامن مع هذا كله تضائل الدور الفاعل للإعلام العربي مع القضية الفلسطينية، بالرغم من تفاقم العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، وممارسته لشتى أشكال الإرهاب المنظم من قتل الأطفال و الشيوخ و النساء ، و عمليات الاعتقال و الأسر الجائرين و سلب الأرض و تهويد القدس.
إضافة إلى ذلك التخاذل الإعلامي العربي أمام ما يسمى صفقة القرن والتهليل الإعلامي بها، والمساعي الحثيثة لتطبيع العلاقة بين بعض الدول العربية والكيان الصهيوني، وقد جعل من التطبيع الإعلامي أحد أبرز وسائله الإستراتيجية الناعمة التي يسعى من خلالها إلى إضفاء الشرعية على جرائمه، وتثبيت كيانه وبناء علاقات طبيعية مع دول المنطقة وشعوبها ، مما أثر بشكل كبير على المساندة الإعلامية للقضية الفلسطينية ، وغض الطرف عن الجرائم اليومية التي يرتكبها الاحتلال الصهيوني الغاشم ضد الشعب الفلسطيني الأعزل، مما مهد بشكل كبير للإعلان على صفقة القرن.
والغريب في الأمر هو غض الطرف إعلاميا على مؤامرة القرن بعدم جعلها من بين أوليات الأجندة الإعلامية العربية، وإعطاء أهمية لقضايا أقل أهمية لصرف نظر المتلقي العربي عن هذه المؤامرة الدنيئة، في حين أن الانغلاق الإعلامي المحلي لبعض الدول العربية خاصة منها التي تشهد توترات داخلية شكّل هو الآخر خذلان إعلامي أمام هذه الصفقة والتقليص من حدة التدفق الإعلامي في مواجهتها ليستفيد من ذلك الطرف الإسرائيلي بشكل كبير.
هذا لو استثنينا الموقف الداعم للإعلام الجزائري من القضية الفلسطينية الذي لطالما دافع عنها وتضامن مع الشعب الفلسطيني ، واعتبار صفقة القرن إجحافا في حق الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية ، ووعي الشعب الجزائري بالمؤامرات التي تحاك ضد فلسطين والسياسة الاستعمارية المنتهجة من طرف العدو الصهيوني قصد إضعاف القضية الفلسطينية وصرف النظر عنها، وهذا ظاهر كذلك عبر الفضاء الافتراضي وشبكات الاجتماعية التي أصبحت منابر إعلامية مهمة للتعريف بالقضية الفلسطينية، والتي عززت موقف الشعب الجزائري الرافض لصفقة القرن، وتبعاتها على القضية الفلسطينية التي تشكّل قضية القومية العربية في نفس الوقت.
إن المأمول من الإعلام العربي هو الوقوف موقفا مشرفا مع القضية الفلسطينية فهي تحتاج إلى هذا الدعم الآن قبل أي وقت مضى، فبوادر مؤامرة القرن أنها ستكون المؤامرة الأخيرة لإغلاق ملف القضية الفلسطينية نهائيا واقتلاعها من الأجندات العالمية، وسلب الهوية العربية من خلال سلب الهوية الفلسطينية، والاعتداء على القومية العربية بالاعتداء على قدسية الأرض والمكان، ولا شك أن تخاذل الإعلام العربي أمام هذه الصفقة المشئومة سيزيد من ترسيخ التبعية الإعلامية العربية للسياسة الإعلامية الغربية التي تسعى بكل الطرق إلى تشويه صورة الإنسان العربي وحقوقه المشروعة في الدفاع عن الأرض والمقدسات، ناهيك عن تعميق الرؤية النمطية للإعلام العربي على أنه إعلام متحيز وفاقد للمصداقية.
كما أن تخاذل الإعلام العربي أمام صفقة القرن فتح المجال أمام الإعلام الأمريكي والإسرائيلي للتسويق لها، وإيهام الرأي العام العالمي والعربي بأهميتها للشعب الفلسطيني للعيش في سلام، وممارسة تدفق إعلامي مبني على الدعاية الإعلامية الكاذبة والمضللة .
•لذلك يجب العمل إعلاميا على رفض هذه الصفقة، والدعوة إلى الوحدة الفلسطينية قصد الحفاظ على ثوابت الهوية الفلسطينية، واستضافة النخب والمثقفين والعمل التشاركي قصد إيجاد حلول والتعامل مع هذه الصفقة، واستخدام خطاب إعلامي عربي يهدف إلى إيصال صوت القضية الفلسطينية للعالم، وأن الشعب الفلسطيني لا يحتاج إلى صفقة جائرة يغلب عليها منطق القوة، وإنما يحتاج إلى صفقة يغلب عليها منطق الحق والإنصاف.
•كما يجب العمل الحثيث من خلال استثمار الدور الإعلامي لشبكات التواصل الاجتماعي لمناهضة الصفقة الجائرة بنشر مضامين إعلامية هادفة الغرض منها كشف خباياها، وأهدافها الخفية، خصوصا أن هذه الشبكات لعبت دورا كبيرا في نشر الوعي السياسي والاجتماعي في المجتمعات العربية، وسعي الجهات الرسمية الفلسطينية بالمقابل إلى الاستفادة منها لتشكيل خطاب إعلامي شامل للقضية الفلسطينية مناهض للسياسة الأمريكية الداعمة للكيان الصهيوني، وأن مضامين الصفقة الجائرة مجحفة في حق الشعب الفلسطيني، ومحاولة نشر هذا الخطاب بمختلف اللغات لكي يلقى تفاعلا وتضامنا دوليا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق