الشاعر عبد الرحيم محمود الذي اختار الوقوف بين سنديان النبوءة ومطرقة المصير
عابد الزريعي
مدير مركز دراسات ارض فلسطين للتنمية والانتماء
لم تكن معركة الشجرة 13 يوليو 1948 الا واحدة من الاف المعارك التي خاضها الشعب الفلسطيني دفاعا عن وطنه، ولم تكن اكثرها شراسة من حيث حدة المواجهة، ولا اكثرها طولا في مداها الزمني، ولكنها كانت من اكثرها دلالة ورمزية ودواما في الذاكرة والتذكر، ومأتى ذلك انها ارتبطت باسم أحد شهدائها وهو الشاعر الفلسطيني عبد الرحيم محمود. رمزية عبد الرحيم محمود الضافية تستمد نسغها من حياة حافلة ومحطات اختيار فاصلة، تتجمع كأوراق خطها القدر واحاطها بلحظتين تتبديان كغلاف كتاب، غلافه الأول نبوءة مرعبة، وغلافه الأخير مصير دامي. في اللحظة الأولى سرد الشاعر، وهو في الثانية والعشرين، نبوءته امام الأمير سعود بن عبد العزيز الذي مر في طريقه لزيارة المسجد الأقصى بقرية عنبتا مسقط رأس الشاعر، كان ذلك في أغسطس من عام 1935. جاءت النبوءة محمولة في تلافيف قصيدة شعرية قال فيها:
نجمُ السُعودِ وَفي جَبينِكَ مَطلَعُهْ ………….. أَنّى تَوَجَّهَ رَكبُ عِزِّكَ يَتبَعُهْ
سَهلاً وَطِئتَ وَلَو نَزَلتَ بِمَحمَلٍ ………….. يَوماً لِأَمرَعَ مِن نُزولِكَ بَلقَعُهْ
وَالقَومُ قَومُكَ يا أَميرُ إِذا النَوى …………… فَرَقَتهُ آمالُ العُروبَةِ تَجمَعُهْ
مالوا إِلَيكَ وَكُلُّ قَلبٍ حَبَّةً ………………… يَحدو بِهِ شَوقاً إِلَيكَ وَيَدفَعُهْ
يا ذا الأَميرِ أَمامَ عَينِكَ شاعِرٌ …….. ضُمَّت عَلى الشَكوى المَريرَةِ أَضلُعُهْ
المَسجِدُ الأَقصى أجئتَ تَزورُهُ …………. أَم جِئتَ مِن قَبلِ الضَياعِ تُوَدِّعُهْ
لم يكن عبد الرحيم محمود ينتظر اجابة من الامير، فقد كان يملك اجابته، سواء كانت ظنية ام يقينية، لأنه كان على معرفة ووعي بكل مكامن الداء الناغر في جسد الأمة. وجاءت اللحظة الأخيرة بعد ثلاثة عشر عاما، حيث كتب الشاعر قصيدة المصير الدامي في خنادق القتال عام 1948، كانت القصيدة بمثابة النداء والوصية المكتوبة بالدم. يقول فيها:
سأحمل روحي على راحتي * * وألقي بها في مهاوي الردى
فإمّا حياة تسرّ الصديق * * * وإمّا مماتٌ يغيظ العدى
ونفسُ الشريف لها غايتان * * * ورود المنايا ونيلُ المني
وما العيشُ؟ لا عشت إن لم أكن * مخوف الجناب حرام الحمى
إذا قلتُ أصغى لي العالمون * * * ودوّى مقالي بين الورى
لعمرك إنّي أرى مصرعي * * * ولكن أغذّ إليه الخطى
أرى مصرعي دون حقّي السليب ودون بلادي هو المبتغى
وكما سكنت النبوءة النص الأول، نجدها ساكنة في الثاني، وإذا كانت في النص الأول تتأرجح بين الظن واليقين، فإنها في النص الثاني صارت يقينا مؤكدا يتبدى ليس فقط في المفردات المستخدمة، وبنية الجملة والصورة الشعرية، بل في وضعها ضمن مجال الرؤية البصرية للشاعر” أرى”. وقد تأكد ذلك اليقين في معركة الشجرة يوم 13 يوليو 1948. والمفارقة ان القذيفة التي انفجرت في عنق الشاعر، قد حادت قليلا عن حنجرته ولم تحطمها، ولأنه لم يكن في حالة رعب او خوف، بل كان يرى نفسه في تلك اللحظة يمضي مسرعا نحو الغاية التي تمناها، فلم يبدد دقائق عمره الاخيرة، لهفة على جرعة هواء او شربة ماء، لكنه راح يملي على رفاقه وهو محمول على اكتافهم وصيته الأخيرة، وهو على يقين بانه مات بالطريقة التي تغيظ العدى. فكان يردد قائلا:
إِحمِلوني إِحمِلوني ـــــ وَاِحذَروا أَن تَترَكوني
وَخُذوني لا تَخافوا ــــــ وَإِذا مِتُّ اِدفُنوني
ما بين الغلاف الأول والأخير كتب عبد الرحيم محمود بالممارسة العملية كل الفصول التي اراد ان يدحض من خلالها نبوءته الأولى، كانت قصائده جراح ورصاص وانتصارات وخيبات، وبحث عن مخارج وطنية وقومية بلا كلل ولا ملل. فبعد عام من وقوفه امام الامير سعود، التحق بثورة 1936 ــ 1939، كمسؤول عن الشؤون الإعلامية، ولم يلبث والتحق بخنادق القتال واصيب في احدى المعارك، وبعد انكسار الثورة لجأ إلى دمشق، ومنها إلى العراق، حيث التحق بالكلية العسكرية ، وتخرج منها برتبة “ملازم ثان”، وهناك تعرف على عبد القادر الحسيني بطل معركة “القسطل”، واشترك في حركة رشيد عالي الكيلاني في أيار 1941، وشارك معه في معركة “سن الذبان”، ثم عاد إلى فلسطين والتحق بالهيئة التدريسية في كلية النجاح حتى العام 1947، ولكن هيهات للروح الوثابة ان تستكين، فما ان تم تشكيل جيش الإنقاذ على إثر قرار التقسيم عام 1947 حتى التحق به برتبة ضابط، وشارك في عدة معارك، فكانت معركة الشجرة بكل رمزيتها، لحظة توقف، ولم تكن اخر مواسم الخصب.