الطبقات الجيبولتيكية لصفقة القرن ومرتكزات المواجهة
عابد الزريعي – مدير مركز دراسات ارض فلسطين للتنمية والانتماء
تطرح صفقة القرن على حركة التحرر العربية بشكل عام، وعلى حركة التحرر الفلسطينية بشكل خاص، تحديا تاريخيا ومصيريا. يتجاوز بتداعياته ونتائجه الى ما هو ابعد من حدود الاقليم العربي. فالصفقة بوصفها مشروع استراتيجي امريكي لإعادة ترتيب جغرافية المنطقة، تأتي في لحظة تحولات جيوسياسية دولية، تتبدى في انكفاء نظام الاحادية القطبية لصالح نظام دولي متعدد القوى والاقطاب، وتهدف الى ضمان امساك الولايات المتحدة الامريكية بمنطقة استراتيجية حاسمة، تسمح لها بإدارة الصراع في مرحلة تراجعها بشكل ناجع، وذلك من خلال تلزيم المنطقة بعد تفكيكها لصالح حليفها الاستراتيجي “اسرائيل” الذي يخشى بدوره من انعكاس ذلك التراجع على سلم اولويات الادارة الامريكية في المنطقة ذاتها. الامر الذي يجعله أكثر نهما وتلهفا على سرعة انجاز المشروع الامريكي بمواصفاته المحددة. واعلان تبنيه له ليصبح في فحواه واهدافه مشروعا امريكيا اسرائيليا. وإذا كانت مواجهة هذا المشروع قد باتت امرا لا يحتمل التردد او التأجيل نتيجة للمخاطر التي يكتنزها، والتي تلقي بظلالها الى مناطق ابعد من الحدود الجغرافية للمنطقة. فان عملية المواجهة الناجعة تستدعي بدورها اليات ومرتكزات واضحة وقادرة على الارتقاء الى مستوى المخاطر التي يتضمنها. هذه المقالة محاولة لرسم تصور اولي لمواجهة صفقة القرن. وهي تنقسم منهجيا الى ثلاثة عناوين حسبما يرد:
اولا: الطبقات الجيبولتيكية لصفقة القرن.
تكشف القراءة المدققة للنص الرسمي لصفقة القرن، والذي يتقاطع في كثير من مفاصله مع مجمل التسريبات التي تتالت على مدى السنوات الماضية، عن طبقتين مباشرة وغير مباشرة.
1 ــ الطبقة المباشرة وتتركب من ثلاثة شرائح متتالية ومتداخلة، تتمثل فيما يلي:
أ ــ منطقة القلب: وتتمثل في كل ما ورد في الصفقة من قضايا سياسية وامنية واقتصادية وغيرها، تتعلق بأرض فلسطين التاريخية، سواء بالتكوين السياسي الاحتلالي، او التكوين السياسي الفلسطيني في الضفة والقطاع. والامتداد الديمغرافي الفلسطيني في دول الشتات.
ب ــ منطقة الطوق: وهي الدول العربية المحيطة بأرض فلسطين، وقد وردت في الصفقة بمستويات مختلفة حيث تمت الاشارة نصا الى بعضها ولم يرد ذكر بعضها، وتتلخص عملية استهدافها في انخراطها في التصور الامريكي ضمن مشروع اعادة الترتيب.
ت ــ منطقة المحيط الخارجي: وتتمثل في المنطقة المحيطة بالإقليم العربي، وفي هذا الصدد تشير الصفقة الى إيران. التي ورد ذكرها خمسة عشر مرة، وفي ثلاثة سياقات. اولها انها تشكل تهديدا وجوديا لأمن إسرائيل. ولاستقرار الدول العربية. فهي حسب وثيقة صفقة القرن تسعى إلى تطويق إسرائيل وتستخدم لبنان وسوريا وغزة، وتعمل على محاصرة المملكة العربية السعودية والعراق والبحرين واليمن. وثانيها ان هناك مصلحة مشتركة بين اسرائيل والدول العربية لمواجهتها، بدعم ورعاية امريكية. بينما يتمثل ثالها في الهدف المباشر وهو العمل على تغيير سلوك إيران، والقضاء على محور المقاومة وحماية إسرائيل وتامين وتثبيت وجودها. وغير المباشر وهو انجاح مشروع تفتيت المنطقة بما يؤمن هيمنة إسرائيل على أشلاء الدول العربية وبناء الشرق الأوسط الجديد. على ضوء ذلك نجد ان المحيط الخارجي كما تطرحه الصفقة يتفاعل بشكل كبير مع منطقة الطوق، وبمنطقة القلب ايضا. وقد ركزت الصفقة على ذلك من خلال الاشارات المتكررة لتشابك العلاقة بين إيران وعديد قوى ودول المنطقة.
2 ــ الطبقات غير المباشرة وهي مختلف بلدان العالم ومنظماته التي استهدفتها الصفقة. وتتمثل عملية الاستهداف في النيل من منظوماتها القانونية والحقوقية وقراراتها السابقة المتعلقة بالصراع في المنطقة. وتتمثل في المنظمات الدولية والاقليمية. (الامم المتحدة ــ الاتحاد الاوربي ــ الاتحاد الافريقي ــ مجموعة برسك.. وغيرها) وذلك على الرغم من ان الصفقة لم تشر لها مباشرة، باستثناء الامم المتحدة التي تمت الاشارة اليها من زاوية عجز القرارات التي اتخذتها وعددها 700 قرار صادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة اضافة الى 100 قرار صادر عن مجلس الامن عجزت جميعها حسب نص الصفقة عن ان تجد حلا للنزاع.
ثانيا: الحلقة المركزية في المواجهة
ان مسار مواجهة صفقة القرن تستدعي بالضرورة مواكبة مسار طبقات الاستهداف المباشرة وغير المباشرة. بما يعنيه ذلك من ان تشمل عملية المواجهة منطقة القلب والطوق والمحيط الخارجي والساحة الدولية. مع الاخذ بعين الاعتبار تراتبية طبقات المواجهة من حيث الاهمية وقوة التأثير في الطبقات الاخرى. وفي هذا الصدد تبرز منطقة القلب كحلقة مركزية طرفية في سلسلة الاستهداف، إذا تم الامساك بها وسحبها فستجر خلفها بقية السلسلة. بما يعنيه ذلك من ان حسم الملف الفلسطيني وتصفية القضية الفلسطينية، أي حسم مصير ارض فلسطين التاريخية لصالح القوة الاحتلالية، سيحسم الملفات الأخرى لصالح المشروع الامريكي. الذي يريد ان يجر السلسة من حلقتها الطرفية وهي اقوى حلقاتها، وليس من أضعفها وهي حلقة الطوق العربية الوسيطة، التي يتسارع فيها الاختراق عن طريق التطبيع. والذي يعي جيدا بان الإمساك الكلي بالحلقة العربية المسماة بأنظمة الاعتدال العربي، لن يسمح له بالإمساك بكل السلسلة، بل قد يقود الى عملية قطع تفتح المجال امام تكوين سلسلة جديدة أكثر قوة واستعصاء على المشروع الامريكي. لذلك يتم التركيز على استخدام الحلقة العربية المعتدلة كأداة ثقب وتليين للحلقة المركزية الرئيسة وهي الحلقة الفلسطينية. التي يوفر الامساك بها السيطرة على كامل الحلقات واجبارها على الانصياع للمشروع الامريكي. وإذا وضعنا في الاعتبار ان الحلقة الفلسطينية في جانبها الرافض والمقاوم للصفقة، يتم النظر اليها من زاوية علاقتها بمجموعة من القوى والدول العربية من ناحية وإيران من ناحية ثانية، يمكننا القول ان مقاومة الحلقة الفلسطينية هي جزء من مقاومة محور المقاومة الممتد من طهران الى لبنان اضافة الى قوى حركة التحرر العربية، وهي الكل الفاعل الذي يقف في الموقع المضاد للمشروع الامريكي. ولابد من التأكيد على ان اهمية الحلقة الفلسطينية كحلقة مركزية في المواجهة، تنبع من الوعي بان سقوطها يعني سقوط تحرير الارض المغتصبة كأحد عناوين مشروع حركة التحرر العربية، والذي سيجر خلف العنوانين الاخرين وهما الوحدة والخروج من التبعية، وبمعنى ادق تسجيل الهزيمة التاريخية لحركة التحرر العربية. ومن ناحية ثانية سحب بساط مشروعية محور المقاومة المرتكز على موقفها من المشروع الصهيوني. ومن ناحية ثالثة انكفاء الحلقات الدولية بمنظومتها القانونية المتعارضة مع صفقة القرن.
ثالثا: مرتكزات البرنامج المقاوم لصفقة القرن:
ان أي برنامج نضالي لمواجهة الصفقة يجب ان يستجيب الى تقسيمة الطبقات المباشرة وغير المباشرة التي تستهدفها الصفقة، الامر الذي يفرض مجموعة من المهام على مستوى كل حلقة من حلقات المواجهة. وفي هذا الصدد تبرز مجموعة من الركائز الاساسية تتمثل فيما يلي:
اولا: تحديد الهدف: ويتبدى في مستوى مباشر يتحدد في محاصرة الصفقة ومنع انتشارها وتسللها على كافة المستويات الدولية والاقليمية الرسمية والشعبية. ومستوى استراتيجي يتحدد في اسقاطها، وانتزاع الفرصة التاريخية لصالح حركة التحرر العربية والمترتبة على هذا الاسقاط.
ثانيا: حسم التوجه: ويتمثل في ضرورة الانتقال من مرحلة التعبير عن رفض الصفقة، الى مرحلة التدبير والعمل على تحقيق الاهداف المباشرة والاستراتيجية. وهي مسألة ترتبط بشكل كبير بكيفية اقتصاد القوى وادارتها في مواجهة طويلة. وعدم الوقوع في خطأ الاستنزاف السريع للطاقات ثم الركون والاستسلام لمجريات الواقع، بينما يستمر الطرف الاخر في الفعل والعمل اليومي بمستويات متعددة.
ثالثا: بناء الخطة: وذلك ارتباطا بما هو عام ومشترك بين كل فصائل حركة التحرر العربية، وبما هو خاص ارتباطا بواقع كل فصيل، ومن حيث المبدأ يمكن تحديد مجموعة من المفاصل السياسية التي تتعلق بحقوق الشعب الفلسطيني ومن ضمنها ضرورة الحسم مع اطروحات التسوية واتفاق اوسلو وتداعياته المختلفة على الساحة الفلسطينية. ومقاومة التطبيع والتبعية على الساحة العربية. والفكرية المرتبطة بمواجهة عملية تزييف الوعي وتشويه تاريخ الصراع وتمييعه. والقانونية التي تتصدي للالتفاف على قرارات الشرعية الدولية، وتصد محاولة تشويه المقاومة ودمغها بالإرهاب، وتأكيد حق الشعوب في مقاومة الاحتلال كما نصت القوانين الدولية، وتجريم العدو الصهيوني. والاعلامية التي تتصدى لمحاولات التضليل الاعلامي وصد محاولات الاساءة للشعب الفلسطيني، وتسليح المواطن العربي بالمعلومة الصحيحة. والعسكرية وهي مسألة ملقاة على عاتق الفصائل الفلسطينية وترتقي الى مستوى التهديد الوجودي الذي تتعرض له القضية الفلسطينية. وفي هذا الجانب يستدعي الامر الترتيب لعمل عصابي متواصل في عمق الكيان وفي شبكة المستوطنات، أكثر من عمليات القصف الصاروخي الذي يحتاج اليه في مستويات اخرى من المواجهة.
رابعا: ادوات الفعل: وتتمثل في منظمات المجتمع المدني من جمعيات واحزاب سياسية على المستوى العربي والاقليمي والدولي، وكذلك الفصائل الفلسطينية، والعمل على بناء علاقات تشاركية وتكوين شبكات نضالية تخترق الحدود الجغرافية. وتشمل مختلف القطاعات الجماهيرية على مستوى النوع والمهنة والدور الاجتماعي.
خامسا ــ اشكال العمل: باستثناء العمل العسكري المنوط بالأجهزة العسكرية للفصائل الفلسطينية، فان العمل الجماهيري يشكل اداة الفعل الرئيسة، التي تتجلى في مختلف الاليات والوسائل مثل التظاهر والاعتصام والمسيرات واصدار البيانات وتوجيه الرسائل والقيام بحملات التوقيع وعقد الندوات والملتقيات والمؤتمرات، والقيام بحملات جمع التبرعات والدعم المادي. مع الوعي الى ضرورة استمرارية العمل النضالي، بما يعنيه ذلك من عدم استنزاف الجهد والطاقة خلال فترة محدودة ثم التوقف.
خاتمة
ان صفقة القرن التي تستهدف تصفية القضية الفلسطينية، كمدخل لتفكيك النظام الاقليمي العربي، وبناء نظام اقليمي جديد مهيمن عليه من قبل الكيان الصهيوني، يجعل من كسب معركة المواجهة مع الصفقة قضية مصير لا تحتمل التأجيل او التردد.