مقالات و دراسات

المشروع القومي العربي بين الوجود بالقوة والغياب بالفعل

د.عابد الزريعي

مدير مركز دراسات ارض فلسطين للتنمية والانتماء

مدخل:

تأتي الذكرى التاسعة والأربعين لرحيل الرئيس جمال عبد الناصر (28 سبتمبر 1970ـــ 28 سبتمبر 2019) في لحظة توافق تاريخية بين مئويتة (1914 ــ 2018) ومئوية الحركة القومية العربية (1916 ــ 2016) التي ارتبطت باندلاع الثورة العربية الكبرى عام 1916 بقيادة الشريف حسين. لقد مرت الحركة القومية العربية خلال ذلك القرن بمحطات متعددة على المستويين الفكري النظري والتنظيمي، دون ان تحقق الأهداف الكبرى التي ندبت نفسها لإنجازها (التخلص من التبعية ــ الوحدة ــ التحرير). الامر الذي جعل المشروع القومي العربي يقف في مواجهة تحديات كبيرة، من ضمنها التشكيك في اهمية وجوده ودوره وجدواه. ويتعلق مصير هذه المواجهة، بإرادة المواجهة المبنية على الوعي العميق بالذات والاصرار على تطويق وتطوير جوانب ضعفها. بما يسمح بتحويل تلك التحديات الى فرص سانحة للنهوض على طريق تحقيق الأهداف التاريخية التي تصدى لها. ان تقييم وتقويم الحركة القومية العربية وتعبيرها المتجسد بالمشروع القومي العربي، يستدعي أولا طرح السؤال المتعلق بوجودها بالقوة، كحقيقة وضرورة يستدعيها الواقع الموضوعي، ويستدعي ثانيا طرح سؤال وجودها بالفعل أي إمكانية تجسد تلك الحقيقة في الواقع العملي. وبين السؤالين تتمدد المسافة بين الضروري النظري والعملي الواقعي. لاسيما وان السؤال الأول يتعلق بالاحتياج، بينما يتعلق الثاني بتلبية ذلك الاحتياج. وهو ما سنحاول تناوله في هذا المقال

أولا: سؤال الضرورة ـــ والوجود بالقوة:

هل يشكل المشروع القومي العربي ضرورة وجودية للامة المنتشرة في الإقليم الجغرافي العربي بحدوده الطبيعية المعروفة؟ الإجابة بنعم او لا على هذا السؤال تنبع من العلاقة بين هذا المشروع، وإمكانية التطور والتقدم الحضاري الشامل للمكونات القطرية لهذا الإقليم بمعزل عن بعضها؟ ودون الخوض في التفاصيل يكفي القول ان المأزق الذي عاشته وتعيشه الدولة القطرية العربية، التي فقدت مقبوليتها لدى القوى الاستعمارية، التي راحت تعمل على تفتيتها وتحويلها الى جزئيات طائفية وعرقية تنفي ذلك. وتؤكد ضرورة المشروع القومي لحماية جزئياته القطرية في مسار توحدها الضروري والحتمي. وتستند هذه الضرورة الى مسألتين هما

أولا: المحددات النظرية لفكرة القومية العربية: وهي جملة القضايا النظرية التي تؤكد وجود الأمة العربية، وهي المفاهيم التي تبلورت في رحابها فكرة القومية العربية، كحافز واداة ومشروع سياسي تتجسد من خلاله مطامح هذه الامة، وتتأكد مصداقيتها من ان أحدا لم يستطع نفيها او الغائها رغم كل المحاولات التي تمت في هذا السياق، ولم تزل قائمة حتى اللحظة. يضاف الى ذلك ان هذه الفكرة تنضوي على كل الإمكانات القادرة على تجميع واستيعاب كل الاطياف العرقية والسياسية المتواجدة في نطاقها الجغرافي، الامر الذي تعجز عن القيام به أي فكرة مناقضة لأنها ستجد نفسها عاجزة عن القيام بهذا الدور لانضواء بنيتها الداخلية على عملية استثناء لاحد المكونات الديمغرافية او الفكرية للامة.

ثانيا: الأهداف الرئيسة للمشروع القومي: وهي الأهداف والشعارات الكبرى التي رفعها المشروع القومي وتبلورت على مسار عشرة عقود من عمره. وتتلخص في الخروج من التبعية السياسية والاقتصادية للدول الامبريالية، وإنجاز الوحدة العربية، وتحرير الأراضي العربية المغتصبة وفي مقدمتها ارض فلسطين.

 ان أي من المواقف المناهضة للفكرة القومية لم تستطع ان تقدم دحضا موضوعيا للفكرة الأساسية، او الأهداف الرئيسية للحركة القومية. وكل المحاولات التي قدمت في هذا السياق ليست أكثر من عملية دوران داخل الفكرة ذاتها، بمفاهيم وعناوين مختلفة سواء كانت إسلامية او ليبرالية او يسارية، حتى حالات الهدم الكلي تقر في جوهرها بهذه الحقيقة.  بما يعنيه ذلك من ان الحركة القومية ومشروعها القومي يشكل ضرورة تاريخية لخلاص امة عانت من القهر والاستعباد والتمزق لعقود طوال.

ثانيا: سؤال الصيرورة ـــ والوجود بالفعل:

لقد اثبتت التجربة التاريخية بان المشروع القومي لم يتحول من الوجود بالقوة الى وجود بالفعل الثابت والمستمر، الا في فترات تاريخية محددة لم تسلم من الانتقاد وطرح الملاحظات. غير ذلك فقد تعرض المشروع الى نكسات كثيرة على طريق التحول، الامر الذي فتح الباب للطعن فيه وتوجيه سهام النقد والاتهام اليه. لكن من المهم الانتباه الى ان الحزمة الكبرى من هذه الانتقادات قد جاءت من الموقع النقيض ومن قبل قوى لم يستطيع أي منها التصدي لأي من المهام الثلاثة المطروحة (التبعية ــ الوحدة ــ التحرير)، بل ان بعضها لا يعتبرها من بين مهامه وينظر اليها بعين الشك والريبة، بينما يقدم بعضا اخر حلولا تعيد انتاجها كواقع مقبول في نهاية المطاف بطريقة او أخرى. كل ذلك يجعل من مسألة الانتقال بالمشروع القومي من الوجود بالقوة الى الوجود بالفعل مسألة مصيرية يتعلق بها حاضر ومستقبل الامة. لكن ذلك لا ينفي حقيقة ان المشروع القومي بممكناته الذاتية الحاضرة، لا يمكن له ان يحقق هذا الانتقال دون القيام على ضوء دروس التجربة التاريخية التي مر بها، بعملية تجديد جذرية. تتناول خمسة مضامين رئيسة تتمثل فيما يلي:

 أولا: ــ المضمون الفكري: لقد باتت الفكرة القومية ذاتها في حاجة الى إعادة قراءة وفهم مختلف عن الاطروحات، التي حولت العروبة الى أطروحة مثقلة بالرجعية والعرقية، مفرغة من مضمونها الحضاري والإنساني. وإذا وضعنا في الاعتبار ما تتعرض له المنطقة العربية من تفتيت جديد يعود بها الى المكونات العرقية والطائفية والجهوية تجعل من العروبة طرفا في عملية التفتيت وليس ندا لها، فان عملية التجديد تستدعي القراءة الشمولية المستندة للإرث الحضاري الإنساني القادر على استيعاب كل الخصوصيات، بما يمكنها من التعبير عن ذواتها في فضاء رحب، بعيد عن الاقصاء والتعالي، وبذلك تكون العروبة كما هي في جوهرها وتناغمها وتفاعلها مع قضايا العصر فكرة حضارة وليست نقاوة عرق بكل ما ينطوي عليه ذلك من مفاهيم رجعية وعنصرية تتنافى وحقائق الوجود الإنساني.

ثانيا: ــ المضمون التنظيمي: يشكل التنظيم أداة المشروع القومي للعمل والفعل في الواقع الاجتماعي. بما يسمح بالمضي قدما على طريق انجاز اهدافه التاريخية. لقد بات التجديد التنظيمي للحركة القومية العربية مسألة ملحة وضرورية، لاسيما وان التجربة التاريخية قد اكدت ان انقساماتها الافقية والعمودية اثرت ومازالت تؤثر سلبا على مسار تحول المشروع القومي من قوة الوجود الى قوة الفعل. وهنا لابد من طرح الأسئلة العميقة حول صيغة الأداة التنظيمية الناجعة لا نجاز هذه المهمة، والتي يمتد التفكير فيها من صيغة التنظيم المتجاوز للبنى القطرية، الى صيغة التنظيمات الناشطة قطريا وتطرح برامج قومية، وصيغة التنسيق بينها، وإعادة قراءة تجربة المؤتمرات القومية قراءة عميقة ومسؤولة بعيدة عن التحيز والتبجح. وكل ذلك من اجل إيجاد الصيغة او الصيغ التنظيمية الأمثل القادرة على نقل المشروع من القوة الى باحة الفعل والتجسيد.

ثالثا: ــ المضمون الاجتماعي: وهي المسألة المرتبطة بالقوى الاجتماعية صاحبة المصلحة الحقيقية بانتقال المشروع القومي من وجود القوة الى وجود الفعل، وهي القوى القادرة على تقديم التضحيات وتحمل أعباء ومشقات هذا الانتقال. وإذا كان من البديهي ان مشروعا قوميا سيكون بالضرورة مشروع السواد الأعظم من الامة، فان المنطقي أيضا ان يستجيب على مستوى البرامج الاجتماعية لقوى العمال والفلاحين والبرجوازية الصغيرة التي تدفع ثمن التبعية للمركز الامبريالي وثمن الانقسام والتشتت القطري، وثمن احتلال الأرض العربية من قوتها وكرامتها ومستقبلها. وبذلك يتجلى البعد الاجتماعي للفكرة القومية وتتوفر لها القوى النضالية، وفي هذه الزاوية بالتحديد فان تقدم المشروع بهذا الاتجاه لا ينفي وجود القوى والشرائح الاجتماعية الأخرى ذات الصلة بالمشروع بالمعنى القومي الشامل، والبعيدة عن الارتماء في أحضان العدو الخارجي. والقوى الداخلية المضادة.

رابعا: ــ المضمون الديمقراطي: كانت المسألة الديمقراطية أحد عناوين اتهام المشروع القومي، خاصة في البلدان التي تصدت لقيادتها قوى قومية. وقد تجاوز الامر الاتهام الى اخذ ذلك كذريعة للتدخل في شؤونها الداخلية من قبل القوى الامبريالية. ان مسألة الديمقراطية تستدعي ترسيخها أولا على مستوى البلدان التي تقودها قوى قومية على قاعدة تعميق الديمقراطية الاجتماعية التي تفتح المجال لأوسع مشاركة جماهيرية واعية في بناء المشروع القومي، وثانيا على مستوى بناء التنظيمات القومية ذاتها وعلى مستوى العلاقة والتنسيق فيما بينها وفي هذا الجانب من الضروري ان تكون القوى القومية نموذجا يحتذى في تجربتها الديمقراطية التي تمس تجديد هياكلها وادواتها وقياداتها. وثالثا يستدعي تجديد المضمون الديمقراطي ان تكون القوى القومية في مقدمة الدفاع عن الديمقراطية في الفضاء الاجتماعي العام وان تتميز بطرح مفاهيمها للديمقراطية المنسجمة مع فهمها للمسألة الاجتماعية وشعاراتها السياسية.

خامسا: المضمون السياسي: حيث اثبتت التجربة التاريخية ان رفع شعار القومية لأية قوة سياسية لم يعد كافيا، إذا لم يتناسق مع قراءة واضحة ودقيقة لموقعها وموقفها من القوى المعادية والصديقة. وموقفها من العناوين الثلاثة المشار اليها بشكل أساسي، وفي ارتباطها بمستوى معين بالمضمون الاجتماعي. وهي المسألة التي يتحدد على أساسها معسكر أصدقاء الحركة القومية على المستوى الإقليمي والدولي. ان أهمية هذه المراجعة تنبع مما شاهدناه في التجربة الحية من ارتماء قوى ترفع الشعارات وتحمل الأسماء القومية، في أحضان الرجعية العربية العدو التاريخي للحركة القومية.

خاتمة: تستمد الحركة القومية العربية مشروعية وجودها بالقوة من فكرتها المحددة لمعنى وجود الامة العربية كحقيقة غير قابلة للإنكار، ومن اهداف المشروع القومي متمثلة في الخروج من التبعية وبناء الوحدة العربية وتحرير الأرض العربية المحتلة. ويتجلى إصرارها على التحول من الوجود بالقوة الى وجود بالفعل في الاستمرار في النضال لأكثر من عشرة عقود، على الرغم من استهدافها الدائم من قبل القوى الاستعمارية واصرارها على النهوض رغم الجراح والهزائم، الامر الذي يفرض القيام بعملية مراجعة عميقة مستفيدة من تجربتها التاريخية، بحيث تشمل المراجعة المضامين الفكرية والتنظيمية والاجتماعية والديمقراطية والسياسية. لقد بات جليا ان المشروع القومي على الرغم من عثراته مازال يمثل مركب النجاة بالنسبة للامة، وحتى يستطيع المركب الانتقال الى بر الامامان لابد من صقل ادواتها والاستفادة من تجربتها من موقع الإدراك العميق بالمسؤولية التاريخية تجاه مستقبل الامة ونهوضها.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق