المقدمات الرسمية للتسوية والتطبيع ..دور اتفاقيات الهدنة العربية الإسرائيلية في تكريس النكبة
عابد الزريعي
مدير مركز دراسات ارض فلسطين للتنمية والانتماء
كثيرة هي الكتابات التي تتحدث عن النكبة، لكن التركيز قليل في اغلبها على اتفاقيات الهدنة بوصفها الفصل الأهم في تلك النكبة، لأنه كان بمثابة ترسيم وتكريس لها على مدى الخمسة والسبعين عاما الماضية. فاذا كانت النكبة بمعناها الاشمل هي اللحظة التاريخية لتحول التراكم الكمي الاستيطاني على ارض فلسطين، الى كيفية ونوعية جديدة حملت اسم ” دولة إسرائيل” فان اتفاقيات الهدنة التي ولدت على أرضية النتائج التي تمخضت عنها حرب عام 1948. كانت بمثابة الاقرار والاعتراف بذلك التحول. وقد تجسدت تلك الاتفاقيات في مجموعة الاتفاقيات الموقعة خلال عام 1949 بين “إسرائيل” والدول العربية التي شاركت في حرب عام 1948 باستثناء العراق. وتمثلت حسب الترتيب التاريخي في الاتفاقية الموقعة مع مصر في 6 يناير 1949، ومع لبنان في 23 مارس 1949، ومع الأردن في 3 ابريل 1949، ثم مع
سورية في يوليو 1949. وهدفت الى وضع حد “للأعمال العدائية” الرسمية للحرب العربية – الإسرائيلية ولقد جاء التوقيع على هذه الاتفاقيات تنفيذا لقرار مجلس الأمن رقم 62 الصادر في 16/11/1948 والداعي إلى اقامة هدنة دائمة. “رغبة في تمهيد الطريق للانتقال من الهدنة الحالية الى سلم دائم في فلسطين”. وقد أصدر مجلس الامن قرارا بتاريخ 26/11/1948 دعي الطرفين اللبناني والاسرائيلي الى التفاوض لإقرار هدنة وفقا لأحكام المادة (40) من ميثاق الامم المتحدة وأنشأت الأمم المتحدة وكالات للإشراف وتقديم التقارير، لرصد خطوط الهدنة المقررة. وبالإضافة إلى ذلك، أدت المناقشات المتعلقة بإنفاذ الهدنة إلى التوقيع على الإعلان الثلاثي المنفصل لعام 1950 بين الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا. وتعهدوا فيه باتخاذ إجراء داخل الأمم المتحدة وخارجها لمنع انتهاكات الحدود أو خطوط الهدنة. كما أوضح التزامها بالسلام والاستقرار في المنطقة، ومعارضتها لاستخدام القوة أو التهديد باستعمالها، وكررت الإعراب عن معارضتها لتطوير سباق التسلح. لقد ترتب على هذا التوجه الأممي الذي وقعت الاتفاقيات على اساسه مجموعة نتائج تتبدى فيما يلي:
أولا: التشتيت الديمغرافي والتقسيم الجغرافي:
ترتب على اتفاقيات الهدنة من حيث المبدأ الاقرار بالنتيجة الديمغرافية التي تضافرت جميع أشكال الإرهاب الصهيوني على انتاجها، وتمثلت في تهجير ما يزيد على 800000 فلسطيني، ولم يبق إلا 160000 منهم في مناطق الجليل والناصرة ويافا والنقب. وكذلك الاقرار بالنتيجة الجغرافية الناجمة عن العدوان والتكيف معها، فقد قسم الخط الأخضر (الاخضر نسبة الى لون القلم الذي رسمت به خطوط الهدنة) الناجم عن اتفاقيات الهدنة فلسطين الى ثلاثة اقسام. الأول وتبلغ مساحته 50777 كلم أي 4,77 % من مساحة فلسطين أقيمت عليه “إسرائيل”. والثاني وتقدر مساحته 5878 كلم أي 3,20 % من مساحة فلسطين، ويعرف بالضفة الغربية، ألحق بالأردن. والثالث وتبلغ مساحته 363كلم أي ما يعادل3,2 % من مساحة فلسطين، ويعرف بقطاع غزة، وضع تحت الإدارة المصرية. وبذلك تكونت المنطقة السياسية الفلسطينية من قسمين متباعدين، هما الضفة الغربية وقطاع غزة، تفصل بينهما أراضي دولة معادية. وبذلك انهت النتيجة الجغرافية الناجمة أية امكانية لتنفيذ قرار الأمم المتحدة رقم 181، وهو الهدف الذي سعت العصابات الصهيونية الى تحقيقه من خلال الاستيلاء عنوة على جزء كبير من الإقليم المخصص لإقامة الدولة العربية. هذا اضافة الى جملة من الانعكاسات السلبية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والادارية على حياة ابناء الشعب الفلسطيني.
ثانيا: تفكيك التمثيل السياسي للشعب الفلسطيني:
لعبت اتفاقيات الهدنة دورا حاسما في نفي ومصادرة الشخصية التمثيلية للشعب الفلسطيني وتقسيمه. فقد حرم الفلسطينيون بعد النكبة من وجود إطار سياسي موحد، بعد ان سُلبت الأرض وشرد السكان وتوزع القرار السياسي. وقد تبدى ذلك من خلال استبعاد الشعب الفلسطيني تماما من تلك الاتفاقيات التي لم تتطرق لوجوده بوصفه ممثل منطقة القلب “فلسطين”. ولم يسأل الفلسطينيين رأيهم في الخط الأخضر أثناء التوقيع على تلك الاتفاقيات. وبالنتيجةقسم ووزع الشعب الفلسطيني بين من هم داخل “اسرائيل”، ومن هم تحت الحكم الاردني ونالوا الهوية الاردنية، بسبب الحاق الضفة الغربية بمملكة شرقي الأردن، استناداً لمقررات مؤتمر أريحا، في أول كانون الأول 1948. والذين وقعوا تحت الحكم المصري في قطاع غزة ونالوا الهوية المصريةـ اضافة الى من تشتت في مختلف البلدان العربية. كما انقسم العرب بشأن الاعتراف
بحكومة عموم فلسطين التي رفضت كل من الاردن والعراق الاعتراف بها بهدف ضمان استمرارية الحاق الضفة بشرقي الأردن.
ثالثا: استلاب مزيد الاراضي والموارد لصالح اسرائيل:
تسبب توقيع اتفاقية الهدنة بين مصر واسرائيل في خسارة 59 كلم مربع من مساحة قطاع غزة البالغة 565 كم لصالح اسرائيل. وبموجب اتفاقية «التعايش» الموقعة بين الطرفين في العوجا سراً بتاريخ 22 شباط 1950 أي بعد سنة من اتفاقية الهدنة، وسجلت في مجلس الأمن في 17 آذار1950، اقتطع على أثرها 200 كلم مربع من مساحة القطاع ليصبح 365 كلم مربعاً تفتقر للموارد الاقتصادية وتفتقد للاتصال بالعالم الخارجي الا عبر مصر. كما قسم خط الهدنة مدينة القدس إلى قسمين منفصلين. كذلك طالت عملية القضم منطقة المثلث التاريخية التي تقع جغرافياً ضمن نفوذ جبال نابلس، وتمتد من جنين شمالاً حتى مدينة نابلس جنوباً وطولكرم غرباً، ذلك ان احدى بنود الاتفاقية ينص على ان تقوم المملكة الهاشمية الأردنية بإعادة القسم الغربي من منطقة المثلث لإسرائيل، والتي تمتد من كفر قاسم جنوباً حتى مفترق مجدو شمالاً على طول 50 كلم وعرض 5 كلم على شكل مستطيل. كما تجاهل خط الهدنة بين الضفة الغربية و”إسرائيل”
انتشار أراضي الفلسطينيين وموارد رزقهم، فقطع أثناء سيره أراضي 75 قرية، يبلغ عدد سكانها نحو 96 ألف نسمة، إضافة إلى عشرات الآلاف من السكان من سكان القدس وقلقيلية وطولكرم. ومنع القرويين في المنطقة الحدودية من الوصول إلى أراضيهم السهلية الموجودة في مرج بن عامر والسهل الساحلي ومدنه. اضافة الى ذلك تم رسم خط الهدنة في الضفة الغربية بين منطقة جبلية مرتفعة في الشرق ومنطقة سهلية منخفضة في الغرب. بما يسمح بوضع يد اسرائيل على مخزون المياه الجوفية. وهو الهدف الذي سعت اليه وتمكنت منه من خلال الضغط على لجنة الهدنة، في قطاع غزه، بحجة منع المتسللين للاستيلاء على أراضي عبسان وخزاعة، لتقليص مساحة القطاع قدر الإمكان، والاستيلاء على المياه الجوفية في شماله.
ثالثا: تأسيس الاعتراف بإسرائيل:
ليست خطوط الهدنة بالمعنى الاصطلاحي حدودا سياسية أو اقليمية، ويتلخص هدفها في تعيين الخطوط التي يجب ألا تتجاوزها القوات المسلحة التابعة للأطراف المتحاربة. لكن في الحالة الناجمة عن اتفاقيات الهدنة العربية الاسرائيلية، فقد تطابقت تلك الحدود إلى حدّ ما مع حدود فلسطين في عهد الانتداب البريطاني. وجرى فيها تحديد الخط الأخضر الذي أصبح حدوداً رسمية بين إسرائيل والدول العربية، بما ترتب عليه من مكاسب جغرافية صافية لإسرائيل. وبذلك اسفرت موضوعيا عن الاعتراف بها، وتحديد حدودها، بما سمى بـ«الخط الأخضر» الذي بات يمثل سياجا ذهنيا لما تم السيطرة عليه. وبالنتيجة القبول بها ـــ بغض النظر ان كان ضمنيا او صريحا ــ كخنجر في قلب الوطن العربي، وربط كل حديث او
صيغ تسوية معها بالحدود المترتبة على تلك الاتفاقيات.
رابعا: تأسيس مبدأ الحماية و” السيادة”:
ترتب على الترسيم الحدودي المترتب على تلك الاتفاقيات، تحمل الدول العربية الموقعة مسؤولية أي اعتداء تتعرض له اسرائيل عبر تلك الحدود، وبالنتيجة منع مقاومة الشعب الفلسطيني، وقيامها بدور حارس الحدود والحامي لإسرائيل. الامر الذي يفسر عمليات قمع المقاومين سواء قبل 1967 الا باستثناءات قليلة او بعدها. ومن المفارقات في هذا الجانب ان مناهضي المقاومة اللبنانية يتذرعون باتفاقيات الهدنة للمطالبة بسحب سلاح المقاومة. ولم يتورع هؤلاء عن القول بوضوح: “لا يزال الالتزام باتفاقية الهدنة من جانب لبنان الرسمي لان هذا الالتزام ميثاقي لبناني توافق عليه اللبنانيون على اساس انه جزء اساسي من استراتيجية معالجة الوضع الجنوبي وتحرير الارض من الاحتلال. ان اتفاقية الهدنة تلزم كلتا الدولتين الموقعتين عليها بضبط القوى غير النظامية وشبه العسكرية التي تستخدم اراضيهما لإطلاق عمليات عسكرية ضد الطرف الاخر. وبالتالي ومن ضمن الالتزامات القانونية الملقاة على عاتق الدولة اللبنانية، بموجب الاتفاقية ان تعمل الدولة على منع المنظمات غير النظامية ومنها الميليشيات المسلحة اللبنانية والفلسطينية عن القيام باي عمل حربي او عدائي ضد القوى العسكرية او شبه العسكرية للفريق الاخر او ضد مدنيي ارض واقعة تحت سلطانه او ان تتعدى او تجتاز خط الفصل للهدنة”.
خامسا: تأسيس مبدأ الاتفاقيات المنفردة:
جاءت اتفاقيات الهدنة لتكرس مبدأ التفاوض المنفرد كسابقة تفاوضية، لم تكن غائبة عن ذهن المفاوض الاسرائيلي والاطراف الدولية منذ ذلك الحين. فالدول العربية لم تتفاوض كفريق واحد، وإنما تفاوضت إسرائيل مع كل دولة على حدة. حيث وقعت مع مصر بتاريخ 24 فبراير 1949 ثم لبنان في 23 مارس 1949 ثم الاردن بتاريخ 3 ابريل 1949، ولينتهي الأمر بسورية بتاريخ 20 يوليو 1949. وقد شكلت الاتفاقية المصرية الإسرائيلية الأرضية التي حكمت مسارات التفاوض بين (إسرائيل) ولبنان والأردن وسورية للتوقيع على اتفاقات هدنة دائمة، وقبول نصوص لعله ما كان ليرضى بها لولا توقيع الاتفاقية المصرية – الإسرائيلية أولاً. وهذه أحد أساليب العمل الإسرائيلي، وهو جر دولة عربية إلى اتخاذ مواقف معينة تصبح حجة تجابه بها الدول العربية الأخرى، كمستوى مقبول من التعامل بين الطرفين. وهو المسار الذي شق طريقه في اتفاقيات التسوية والتطبيع اللاحقة.
خاتمة
كانت اتفاقيات الهدنة بمثابة الترسيم والاقرار بوجود “اسرائيل” بوصفها الحالة الكيفية الجديدة الناجمة عن التراكم الكمي للتموضع الاستيطاني في فلسطين، وهو اقرار دولي وعربي في ذات الوقت. ترتب عليه مجموعة من النتائج الكارثية على الشعب الفلسطيني ومستقبل الصراع مع الكيان الصهيوني، الأمر الذي يفرض تسليط الضوء عليها لنقدها ونقضها تماما مثل اتفاقيات التسوية والتطبيع التي لم تكن الا امتداد لها.