الموجهات السياسية الضامنة لمجابهة واسقاط مخططات الضم
عابد الزريعي
مدير مركز دراسات ارض فلسطين للتنمية والانتماء
جاء الإعلان الإسرائيلي عن البدء بضم منطقة الاغوار في الضفة الغربية بتاريخ الأول من يوليو/ تموز 2020، كجرس تنبيه بان صيغة التسوية / التصفية المعروفة بصفقة القرن، لم تكن مجرد مجموعة صفحات من ورق ولدت ميتة حسب التعبير الفلسطيني المتكرر، وانما عبارة عن مشروع يتحرك على الأرض منذ زمن، وما تاريخ الأول من تموز الا محطة جديدة من المنوي الوصول اليها ثم تجاوزها في مسار استكمال تحركه، حتى بلوغ محطة تصفية القضية الفلسطينية، بكل ما يترتب على ذلك من تداعيات سياسية تمس الوضع الإقليمي برمته. وارتباطا بالإعلان عن ذلك الموعد صدرت عديد المواقف على المستوى الدولي او الإقليمي او الوطني الفلسطيني، المعبرة عن رفضها للإعلان وانفاذه مع اختلاف زوايا الرفض بين موقف واخر. كما صدرت عديد المواقف المعترضة من داخل الكيان الصهيوني، وكذلك عديد المواقف حمالة الأوجه من داخل الولايات المتحدة الامريكية، يرتبط اغلبها بالصراع الأمريكي الداخلي أكثر من تعلقه بالعدالة والقانون الدولي. وفي خضم ذلك تشبعت الساحة السياسية بعديد التسريبات التي تدور حول قدرة نتنياهو على انفاذ ما أُعلن عنه، وحول تجزئة عملية الانفاذ لتأخذ طابعا تدريجيا او تعويضيا بمعنى الاستعاضة عن الاغوار بشكل مؤقت والشروع في ضم كتل استيطانية كبيرة. هذا في الوقت الذي يرى نتنياهو ان الفرصة سانحة لما هو مقدم عليه، في ظل انشغال العالم بمكافحة الكورونا، واستبعاده لأي ردود فعل كابحة. حتى من الشريك الامريكي المنهمك في مواجهة استحقاقات داخلية هامة، بل واعتقاده ان المنطقة ستتكيف مع القرار بعد تنفيذه مثلما تكيفت مع قرارات مشابهة سابقة. وفي مواجهة هذه اللحظة بكل تحدياتها يبدو الموقف الفلسطيني مرتبكا وغامضا ومكبلا الى حد كبير اما بخيارات سياسية سابقة، او نتيجة لغياب رؤية واضحة حول كيفية مواجهة استحقاقات المرحلة.
وإذا كان الإعلان عن يوم 1 تموز موعدا للغضب على قرار الضم قد شكل توجها طبيعيا وصائبا، فان استكمال صوابيته يستدعي ان يكون أيضا يوما للغضب على الذات ومواجهتها بوضوح، من اجل توفير أسس المواجهة في قادم الأيام، لاسيما وان مواجهة اعلان الضم هو المعركة وليس الحرب التي تنضوي على عديد المعارك الشرسة والقاسية، بكل ما يستدعيه الامر من جاهزية واستعداد. وذلك يعني ضرورة التبصر بالقضايا الستة الاتية:
أولا: ان قرار الضم جاء كتنفيذ لما هو وارد في الخطة الامريكية للسلام (صفقة القرن) والتي نصت في هذا الجانب، على ان الشروع في التنفيذ يبدأ بعد انتهاء اللجنة الامريكية الإسرائيلية من رسم الخرائط التفصيلية المتعلقة بالمناطق الواجب ضمها. وكل الاعتراضات الامريكية على موضوع الضم لا يتجاوز هذا النطاق. وهو امر مفتوح للتسوية السريعة من خلال اللقاءات والاتصالات بين الطرفين. وفي هذا السياق تواصل نتنياهو وغانتس، بمسؤولين أمريكيين يوم 8 حزيران/ يونيو، عبر الفيديو كونفرنس وشارك في اللقاء كل من السفير الأمريكي لدى اسرائيل ديفيد فريدمان. وجاريد كوشنر، ومستشار الرئيس الأمريكي لعملية السلام، آفي بيركويتز، والسفير الإسرائيلي لدى الولايات المتحدة رون ديرمر. وإذا كان الأمريكيون قد ركزوا خلال اللقاء على معرفة الخطوات التي يمكن اتخاذها. الا ان التوجه الإسرائيلي الأمريكي في هذا السياق ليس منفصلا عن خطوات تم انفاذها وتجسيدها على الأرض قبل ذلك، مثل قرار الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني وضم الجولان وغير ذلك كثير.
ثانيا: ان دعوة الولايات المتحدة الامريكية الى مفاوضات فلسطينية إسرائيلية قبل الشروع في تنفيذ خطة الضم. لا تمثل تباعدا بين الموقفين الإسرائيلي والامريكي، ولكنها محاولة لجر الجانب الفلسطيني الى المفاوضات في سياق صفقة القرن، ليكون الضم بغض النظر عن اليته وحجمه قد تم بموافقته، وفي ذات الوقت حشره في موقف الرفض، واتخاذ ذلك ذريعة بعدم وجود طرف فلسطيني للتفاوض معه، وبالنتيجة انفاذ القرار رغما عنه. وفي هذا السياق يمكن ان نفهم عدم الاكتراث الاسرائيلي والامريكي برفض رئيس السلطة الفلسطينية الاستجابة لدعوة وزير الخارجية الأمريكي بإجراء مباحثات، وذلك خلال زيارته لدولة الاحتلال في منتصف أيار/ مايو الماضي، وكذلك تهديده المتكرر بإنهاء الاتفاقات مع إسرائيل والولايات المتحدة.
ثالثا: ان الموقف الأوروبي المعلن من قبل أكثر من طرف يتلخص في رفض القرار، وهو موقف يتناسق مع جملة المواقف السابقة للاتحاد، ولكن سقف التعبير عن هذا الموقف يختلف من بلد الى اخر، ولا تستطيع دولة أوروبية مهما كان وزنها ان تفرض مواقف ملزمة على بقية دول الاتحاد، والاوهام الرائجة حول موقف المانيا يبدو انها انزلقت الى باحة التمنيات الى حد الحديث عن إمكانية فرض عقوبات على إسرائيل. فموقف الاتحاد الأوروبي لم يتغير بشأن بناء المستوطنات واعتبارها مخالفة للقانون الدولي، ومع ذلك استمر بناء المستوطنات. وفي خضم التعبيرات المتعددة من دول اوربية بشأن قرار الضم خرج مفوض الشؤون الخارجية للاتحاد ليميز بين الموقف من ضم أراضي لدولة ذات سيادة وضم أراضي فلسطينية. وعندما تم تداول الحديث عن فرض عقوبات على إسرائيل من قبل الاتحاد إذا ما مضت في قرار الضم، تم ربط ذلك بالقضايا التي عليها اتفاق بين دول الاتحاد.
رابعا: ان التعارض القائم بين مستويات مختلفة داخل الكيان الصهيوني حول قرار الضم، تدور ضمن ثلاثة محددات، أولها دعاة حل الدولتين من اليسار، وثانيها الخشية من التداعيات الأمنية من قبل أوساط عسكرية وامنية، وثالثها الخشية من ان يؤدي الضم الى قيام دولة فلسطينية الامر المطروح من قبل ممثلي المستوطنين. الذين يطالبون كذلك بما لا يقل عن 38 بالمئة من أراض الضفة الفلسطينية المحتلة، ويرون ان اللحظة تكتنز “فرصة تاريخية لتوسيع سيادة إسرائيل”، ومن الملاحظ ان نتنياهو لا يعير سمعا الا لأصحاب وجهة النظر الثالثة الذين يلتقي معهم تحت سقف الغاء الحقوق الوطنية الفلسطينية. ولذلك سارع بالتأكيد لهم ان اعلان الضم لن يشير لدولة فلسطينية. وانه جاهز لضم 32 بالمئة من الضفة الغربية المحتلة، اعتبارا من 5 تموز/ يوليو المقبل.
خامسا: ان الموقف العربي يدخل في لعبة مقايضة قذرة بين الضم والتطبيع. وكأن الضم كجزء من صفقة القرن مفصول عن التطبيع كألية لتمرير الصفقة.؟ وحتى لو افترضنا ان الامر يتم طرحه بشكل جدي. فهو يضع الطرف الفلسطيني في سياق مقايضة تقوم على الاتي: “ندعمكم مقابل التسليم بتطبيعنا مع العدو، الذي سيستفيد من هذا التطبيع في الضغط عليكم في النهاية، وسنستفيد منكم في تغطيتكم لتطبيعنا مع اسرائيل”. واجمالا فان هذا المسألة التي روج لها الصحفي الامريكي توماس فريدمان وسار على إثره سفير الامارات بواشنطن لم تلبث وان تكشفت حدودها عندما أعلن انور قرقاش وزير خارجية الامارات باننا سنتعاون مع اسرائيل حتى لو اختلفنا. وكل ذلك وسط تسريبات بان نتنياهو، تمكن من إقناع السعودية والإمارات ومصر. بخطة الضم مع تقديم وعد بدولة فلسطينية في المستقبل البعيد.
سادسا: منذ ان تم الإعلان عن قرار الضم شهدت المنطقة ضغطا في الاحدث المتسارعة والمتلاحقة طالت الساحات والقوى الرئيسة التي تشكل موقفا حاسما من صفقة القرن، ويمكن الاستناد اليها في دعم حراك نضالي وشعبي فلسطيني في التصدي لها. وفي هذا الصدد تبرز عملية الضغط ومحاولة خلط الأوراق في الساحتين السورية واللبنانية والهجوم الاقتصادي على سورية عبر تشديد الحصار من خلال قانون قيصر، بل وتجاوز ذلك الى ارتكاب جرائم حرب بحرق المحاصيل الزراعية الأساسية. وارباك الوضع الداخلي اللبناني بطريقة تدفع نح الفوضى بما يترتب على ذلك من تركيم الضغوط على حزب الله، ومحاولة إعادة الاحداث في سورية الى بداياتها الى حد حرق الشاحنات التي تنقل المواد الغذائية لسورية من ميناء طرابلس اللبناني بصورة مشابهة لما كان يحدث عام 2011. وكذلك إطلاق يد السعودية في اليمن بعد حذف اسمها من قائمة منتهكي حقوق الأطفال. وكذلك استمرار الحصار وكذلك مواصلة الحصار والضغط على إيران.
يترتب على هذه القضايا ضرورة بلورة الخيارات السياسية الحاسمة واللازمة التي تساهم في بناء موقف وطني فلسطيني قادر على المجابهة وخوض الحرب بكل تفاصيل معاركها. على قاعدة الوعي بان مواجهة خطة الضم يجب ان يتحدد في سياق المواجهة الشاملة مع مشروع التصفية، وليس كخطوة منعزلة عن هذا المسار. كما ان مشروع التصفية ليس معزولا بدوره عما يجري على المستوى العربي والإقليمي، من محاولة ضرب وتحييد قوى وتوفير كل عوامل التغول السياسي والعسكري والتطبيعي لقوى ودول أخرى. لذلك فانه من غير الممكن مواجهة قرار الضم بشكل ناجع، بمعزل عما يجري في المنطقة، وعن ضرورة بناء التحالف الواضح والصريح مع القوى التي تتصدى للهيمنة الامريكية وللتطبيع مع العدو الصهيوني في اللحظة الراهنة. ان الوعي بهذه المسألة يفرض بدوره الحسم مع خيارات التسوية بكل ما يتعلق بهذا الموضوع من قضايا، والكف عن توجيه رسائل الاستجداء السياسي من نوع مقابلة وزير الشؤون المدنية حسين الشيخ مع نيويورك تايمز. وعدم المراهنة على المواقف الخارجية على أهميتها، كبديل للنضال الفلسطيني المستند الى تحالفات إقليمية تخوض المواجهة ذاتها. فالمواقف الخارجية توفر المناخ المناسب لتطوير الفعل الذاتي الذي يقود بدوره الى تطوير تلك المواقف، اما الاتكال اليها على حساب الفعل الذاتي سيترتب عليه في نهاية المطاف تعطيل القدرات وشلها من ناحية وتقويض المواقف الخارجية الداعمة من ناحية ثانية. فعندما يعدد جوزيب بوريل الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية المخاطر المترتبة على قرار الضم أولا في التأثير السلبي على الاستقرار في المنطقة، وثانيا على امن إسرائيل، وثالثا على علاقاتها مع الدول العربية (التطبيع)، ورابعا على علاقاتها مع الاتحاد الأوربي. فهو يكشف عن ثلاثة عوامل يمكن ان تؤثر في الموقف الأوروبي، والمفارقة انها ذات العوامل الثلاثة الأولى التي يرتبط تفعيلها بالنضال الفلسطيني وفصائل حركة التحرر العربية وهنا بالضبط تكمن أهمية ودور العامل الذاتي في التصدي للضم في سياق التصدي لمشروع التصفية.