اليات تكيف مسيرة العودة مع التحديات وتعزيز الفرص
د.عابد عبيد الزريعي
مقدمة
تمكنت مسيرة العودة الكبرى بما شكلته من نقلة نوعية في السلوك الجمعي من فرض نفسها على خريطة احداث المنطقة، وذلك بانطلاقتها الجديدة في الذكرى الثانية والاربعين ليوم الارض 30 مارس 2018 ومازالت محافظة على اوارها حتى اللحظة. وكشفت بما مثلته من مستوى عالي للانتفاض الجماهيري عن أحد السمات الرئيسة للشعب الفلسطيني واحد مفاتيح فهم الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، منذ بداياتها أواخر القرن التاسع عشر وحتى اللحظة الراهنة. اضافة لذلك فقد شكلت حالة من اشتباك الوعي الشعبي المقاوم في لحظة تاريخية وسياسية محددة مع كل محاولات اجهاض القضية الوطنية وفتحت افاقا واسعة امام تحقيق الاهداف التي ناضل الشعب الفلسطيني طويلا من اجل تحقيقها وعلى رأسها العودة الى وطنه وارضه التاريخية. وقد باتت اللحظة تفرض التوقف امامها ليس من اجل الوصف والاطراء، وانما من اجل الاستخلاص وتوفير الممكنات النظرية التي تسمح بدفعها الى الامام، لاسيما وإنها قد جعلت مسألة العودة من بين الممكنات بعد محاولة ادراجها من قبل القوى المعادية والمتواطئة في سياق المستحيلات. وانطلاقا من هذا التصور سنقف في هذه الورقة امام مجموعة من العناوين المترابطة تتمثل فيما يلي: اولا: اهمية وخصوصية اللحظة التاريخية. ثانيا: التحديات واليات الاجهاض. ثالثا: الفرص وممكنات الانجاز. رابعا: اليات التكيف مع تحديات الاجهاض وتعزيز فرص الانجاز.
أولا: اهمية وخصوصية اللحظة التاريخية:
على الرغم من ان التاريخ الذي صك فيه مصطلح مسيرة العودة وبدء ترجمته العملية يعود الى عام 2012، حيث قام بالمحاولة الاولى مجموعات من الشبان الفلسطينيين في لبنان وسوريا، ثم استمرت في كل عام ولكن بنسق بسيط. الا ان المسيرة الحالية اخذت زخما كبيرا على كافة المستويات نتيجة لعدة قضايا لعل اهمها:
1 ــ التوقيت: جاءت مسيرة العودة في ظل لحظة تاريخية فارقة على كافة المستويات الوطنية والقومية والاقليمية والدولية يمكن رصدها فيما يلي.
أــ فلسطينيا: تفاقم حالة الانقسام الفلسطيني في ظل فشل اتفاق المصالحة ـــ فرض الحصار الشديد على قطاع غزة من قبل السلطة الفلسطينية وتفاقم الاوضاع بمختلف مناحيها ـــ وصول برنامج السلطة للتسوية الى طريق مسدود مع استمرار العدو في التقدم والسيطرة على الارض بالاستيطان الزاحف ـــ تبلور مشروع تصفية القضية الفلسطينية عبر ما يسمى بصفقة القرن وظهور ملامحه في نقل السفارة الامريكية الى القدس.
ب ــ عربيا: ارتفاع وتيرة التآمر العربي على القضية الفلسطينية وقيام بعض الدول العربية خاصة السعودية بدور العراب للمشاريع الامريكية، وانخراطها في مسار التطبيع المتسارع مع الكيان الصهيوني. ومن جهة ثانية صمود سوريا وتقدمها في الميدان وبروز محور المقاومة كقوة فاعلة وقادرة بامتداده على المستويين العربي والاقليمي من خلال إيران.
ج ــ الدولي: لحظة متغيرات دولية كبرى تحاول فيها الدول اعادة تمركزها في المواقع التي تحمي وتضمن مصالحها الاستراتيجية، وفي هذا الجانب يبرز الدور الامريكي الذي يدافع عن مواقعه المتراجعة بعقدة صفقات مالية مع الدول الخليجية حيث يبتزها بحجة حمايتها ودعمها في وجه إيران، بما يترتب عليه من الاقدام على تشجيع اسرائيل في مشروعها العدواني العنصري / نقل السفارة ــ الصمت عن الاستيطان ــ البحث في الاعتراف بسيطرتها على الجولان… الخ
هذه اللحظة بكل ابعادها تضع الحالة الفلسطينية امام خيارين لا ثالث لهما، اما المبادرة بفعل نضالي من اجل حماية الذات في سياق التموضع على خريطة الكون او الاستسلام ومد العنق تحت مقصلة الظرف.
2 ـــ نوعية المسيرة: وكوننا نتحدث عن فعل قائم اذن كانت المبادرة النضالية ومن الموقع الاضعف والاقوى هي رد الفعل الذي ينسجم مع مفاعيل التجربة التاريخية ومفرزاتها السيكولوجية بالنسبة للشعب الفلسطيني. وقد تجلت نوعية المسيرة من خلال زوايا متعددة يمكن رصدها فيما يلي:
أ ــ التاريخ: لقد جاء انطلاق المسيرة في الذكرى الاربعين ليوم الارض بكل ما تحوزه هذه المناسبة من اهمية على مستوى الذاكرة العميقة والوعي الجمعية ليمنحها قوة الاندفاعة التي فرضت نفسها، خاصة وان التفاعل بين مصطلح الارض والعودة يشتغل كمحفز كيما ـــ سياسي بالنسبة للشعب الفلسطيني. وقد وفرت قوة الاندفاعة ما يمكن تسميته بالاستمرار في مدى زمني كحملة متواصلة بدأت بمناسبة يوم الارض ولم تزل تواصل بزخم حتى اللحظة.
ب ــ الجغرافيا: لقد انطلقت المسيرة من غزة التي ساد الاعتقاد انها الاضعف والتي استهدفت بالضغط على مدى طويل، لتفاجئهم بان يخرج منها الفعل الاقوى. لتشمل مختلف جغرافيا انتشار الشعب الفلسطيني. لتخرج بذلك من إطار الحدث المعزول الى الحدث الشامل.
ج ــ الانسان: على الرغم من الطابع الشبابي للمسيرة بل انها في جوهرها مبادرة شبابية الا انها كانت مناسبة لمشاركة كل الاجيال الفلسطيني، لذلك كان منظرا معتادا ان يلتقي في خيام العودة الجد والابناء والاحفاد أي ثلاثة اجيال. كما كانت مناسبة لمشاركة على مستوى النوع الاجتماعي حيث شارك النساء الى جانب الشباب.
نتيجة للسمات المشار اليها فقد ترتب عليها انعكاسات كبيرة وعميقة في مختلف الساحات. وطرحت عديد من الدلالات المستقبلية الاستراتيجية. وأدرك الجميع ان حدثا نوعيا بات يتشكل في تاريخ الشعب الفلسطيني. وان هذا الحدث يواجه في مسار تطوره تحديات ليست بالهينة ولكن الوعي بهذه التحديات يمكن ان يحولها الى فرص حقيقية تساهم في استمراره واندفاعه الى الامام حتى تحقيق الهدف المرتبط بالعنوان وهو العودة. فما هي التحديات التي تواجه المسيرة:
ثانيا: التحديات واليات الاجهاض:
تنبثق التحديات والمخاطر المحدقة بالمسيرة كفعل نضالي من ثلاثة جوانب، اولها اليات ووسائل القوى المتضررة منها وفي مقدمتها العدو الصهيوني تجاهها، وثانيا من الوسائل التي يمكن اعتمدها بمشاركة العدو الرئيسي وأطراف اخرى للالتفاف على المسيرة واجهاضها من محتواها، وثالثا عن جملة الظروف المحيطة بالمسيرة واغلبها تكون ظروف داخلية. على ضوء ذلك يمكن ان نصوغ تلك التحديات في ثلاثة عناوين رئيسة:
أولا: تحدي الايذاء: يتمثل في قيام اسرائيل بمواجهة المسيرة السلمية بأعلى درجات القمع العسكري. وهو التوجه الذي سارت عليه منذ اللحظة الأولى. لقد جاء هذا المسلك كنتيجة للعنف المتأصل في بنية الكيان وتفاعله مع اقتراحات تم تقديمها من قبل باحثين صهاينة توصي بضرورة استخدام الجيش للرصاص كوسيلة لوأد مسيرة العودة. وهو الأمر الذي اكده عدد شهداء المسيرة الذي تجاوز المئة والجرحى الذين تجاوز عددهم العشرة الاف جريح. ويهدف العدو من خلال القتل المكثف الى تحقيق هدفين مكثفين:
1 ــ استدراج المسيرة الى المواجهة العسكرية المكشوفة لخلق المبررات التي تسمح له بتشغيل الة البطش بحدودها القصوى. وفي ذات الوقت تشكيل سردية مضادة لسردية المسيرة القائمة على السلمية بما يفتح الطريق الى افقاد الخطاب مشروعيته في الساحة الدولية. وهذا ما يفسر التركيز الشديد على حركة حماس بانها هي التي تحرك المسيرة المونة من عناصرها المسلحة. وقيامه بغارات جوية متكررة على مواقع المقاومة لجر الفصائل الى الاشتباك العسكري.
2 ــ إعادة الفلسطيني الى حالة الصدمة والذهول والخوف وتكريس الشعور بالعجز وعبثية المقاومة. عن طريق الحاق أكبر قدر من الاصابة التي تقود الى العجز بالجيل الشاب، الامر الذي يؤكده نوعية السلاح المستخدم وعدد الاصابات. وبما يفتح الباب الى التشكيك الداخلي في الوسط الفلسطيني حول جدوى المسيرة. مثل الحديث عن التلوث البيئي ــ الحديث عن الخسائر والمهالك ـــ التشكيك في مواقف القوى / حماس/ … الخ وفي ذات الوقت يتم دعم عملية القتل المادي بالترهيب والتأثير النفسي من خلال توزيع بيانات ومنشورات من الجو تحذر المتظاهرين من عواقب تجاوز السلك الفاصل، وإطلاق النار في الهواء، وإطلاق قنابل دخانية، وإطلاق قنابل صوتية وغازية، واستخدام الطلقات النارية.
ثانيا: الاغراء: ويتخذ طابعا اقتصاديا وسياسيا يهدف الى افراغ المسيرة من عامل الاستمرار ومضمون الاهداف، عن طريق تقديم مجموعة من الاغراءات الاقتصادية والسياسية التي لا ترقي الى مستوى الهدف المعلن واللصيق باسمها. ويتجلى الاغراء في هذا الجانب في التلويح بتخفيف الأوضاع الاقتصادية الصعبة في قطاع غزة، تقود الى تغيير البيئة الاقتصادية والانسانية للقطاع بما سمح بتحسين حياة الناس. وفي هذا الاتجاه اوصى التقرير المقدم لمركز الامن القومي ب ـــ القيام بخطوات تهدف إلى تخفيف مظاهر الأزمة الاقتصادية، وتقليص مظاهر الحصار، حتى لو كانت هذه الخطوة بعكس رغبة قيادة السلطة الفلسطينية المعنية بمواصلة فرض الحصار”. ومن الملاحظ ان كل ما يطرح في هذا الصدد يقوم على التجاهل والانكار للحقوق السياسية للشعب الفلسطيني، ويحصر الامر في حدود تحسين الوضع الاقتصادي ورفع الحصار وإذا ما طرحت المسالة سياسيا فبصيغة تتناقض مع اهداف الشعب الفلسطيني بل وتقوضها مثل الاعتراف بكيان معادي ومنفصل في غزة. وفي هذا الجانب يمكن ان يبرز اغراء استعجال قطف الثمار كتحدي ناتج عن سلوك الجانب الفلسطيني الذي يكون قد وقع تحت عامل الاغراء سواء بما يطرح من تحسين الاوضاع او نتيجة لما شكلته المسيرة من زخمـ فيلاحظ ظهور اطروحات ان هدف المسيرة هو رفع الحصار. ان التوظيف المستعجل لم يستفد من تجربة الانتفاضة الاولى 1987 التي شكلت نقلة نوعية تاريخية، في الفعل الفلسطيني المقاوم ذي الطابع المدني. واستطاعت انقاذ الثورة من أزمتها بعد الخروج من بيروت. ولكنها اجهضت بسبب استعجال التوظيف السياسي. اضافة الى ذلك فان الاستعجال وطرح اهداف خارج سياق المسيرة يقود الى تعقيد العلاقة بين القوى الفلسطينية الامر الذي سينعكس سلبا على المسيرة ويؤثر فيها.
ثالثا: تحدي الانهاء: أي انهاء المسيرة وتوقفها وعدم قدرتها على تحقيق شرطها الرئيس وهو استدامتها واستمراريتها، التي تتأتى من ارتباط تحقيق اهداف المسيرة باستمرارها على مدى زمني طويل، تحافظ خلاله على مستوى معين من الحشد يمضي باستمرار نحو التنامي العددي والجغرافي وليس التناقص والمراوحة في ذات المكان. بما يترتب على ذلك من الاجابة على اسئلة ذات طابع استراتيجي مفادها: هل يمكن الايفاء بهذا الشرط في ظل حالة الانقسام السائدة في الساحة الفلسطينية بكل تداعياتها؟ وهل يمكن الايفاء بهذا الشرط من غير توفر الامكانات المادية اللزمة والضرورية خاصة ما يتعلق بالجانب الطبي والانساني وفي ظل حالة الحصار المفروضة على القطاع بوصفه طليعة المسيرة من الناحية الموضوعية.؟ هل يمكن الايفاء بهذا الشرط في ظل حجم الضغوط القائمة من اجل ايقافها بكافة الوسائل المشار اليها في التحديين الاول والثاني؟ هل يمكن للمسيرة ان تستمر في حالة غياب الدعم الجماهيري والاعلامي.. الخ من المحيطين العربي والدولي. وفي البحث عن اجابات مرضية على هذه الاسئلة تنبثق عديد التحديات الجزئية التي تجعل من ضمان الاستدامة تحديا كبيرا منتصبا.
ثالثا: الفرص وممكنات الانجاز.
التحديات المشار اليها تأتي في سياق محاولة محاصرة الفعل الذي يصنع الفرصة بعد ان تعذر منعه. بعد ان أصبح حقيقة متجسدة على الارض. ويلوح بفرصة استراتيجية تاريخية واعدة تحفز على الامساك بها بكل الطاقات وعدم السماح بإفلاتها. وإذا كانت هذه الفرصة تتبدى كحامل لوعد تحقيق الغاية الرئيسة لنضال الشعب الفلسطيني، فإنها تتبدى ايضا كضامنة لأخذ موقعه في اللحظة الراهنة كفاعل في مسار المتغيرات الدولية الحادثة من ناحية، ومانع لمرور عملية تصفية قضيته الوطنية في اللحظة الراهنة والتي تتبدى في اشتداد وتيرة التآمر عليها الى حدود قصوى. ان الاساس الذي تشكل خلال مسيرة العودة وعلى الرغم من التحديات القائمة يتمثل بشكل رئيس في اعادة التأكيد على واقعية تحقيق هدف العودة بعد ان تم تبديده والنظر اليه كموضوع تجاوزته حقائق العصر. وباتت الحركة السياسية التي تدور من حوله والوسائل التي تعتمدها تقوم على القفز عن قضية اللاجئين والبحث عن حلول لها بعيد عن حق العودة. ان الفرص المتأتية من مسيرة العودة والتي تحاول كومة التحديات المشار اليها اجهاضها تتبدى عبر مستويين.
أولاــ نظريا: اعادة طرح سؤال النكبة وقضية العودة وتشغيل المنظومة القانونية الدولية الحافة بها، مذكّرة بقرار مجلس الأمن (194) وارتباطا بذلك اعادة طرح القضية الفلسطينية كقضية حركة تحرر وطني محمية بكل الارث القانوني الدولي الخاص بحركات التحرر واتفاقيات جنيف. والعودة الى المشهد الدولي من هذه البوابة التي ساد الاعتقاد بانها قد اغلقت. يضاف الى ذلك فرصة دمج هذا الجانب مع مسار المتغيرات الدولية المتنامي باتجاه نظام دولي جدي متعدد الاقطاب أحد اهم سماته احترام قرارات الشرعية الدولية. وبما يترتب على ذلك وضع الكيان الصهيوني عاريا امام العالم بعد ان كاد العالم ان ينسى حقيقته وجوهره. وبما يسمح بوصعه في موقع المقارنة الحية مع نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. وكذلك اعادة الجدل والمسائلة حول الاسس التي قامت عليها دولة اسرائيل ومدى شرعيتها الى نقطة البداية. ومنع الكيان الصهيوني من المضي باتجاه انه بات حقيقة وجود وحشره ضمن سؤال الوجود ذاته. لذلك فان اسرائيل ا كدولة احتلال واستعمار لا زالت تعيش مرحلة حسم صنع الوجود. كانت هي الطرف الاول الذي أدرك الأهمية الاستراتيجية لمسيرة العودة وخطورتها على مستقبل وجودها.
ثانياــ عمليا: وفرت المسيرة صيغة عمل نضالي ينقل الحالة الفلسطينية الى مرحلة هجوم استراتيجي يسمح باختراق الحدود سلميا بملايين الفلسطينيين. في ظل نجاحها في اعادة تجميع الشعب الفلسطيني في فعل نضالي وعلى هدف واحد بما يمكن من معالجة الاذى الذي الحقه اتفاق اوسلو. اننا امام فعل نضال تفاعلت وانصهرت فيه مختلف جماهير الشعب الفلسطيني في مختلف اماكن تواجده. بما يفتح الطريق على اعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية في سياق فعل نضالي جماهيري شعبي ديمقراطي. واشرت لطريق يفتح الفرصة امام تركيم الفعل لاقتحام فعلي للحدود. وفي الجانب العملي اعادت المسيرة القضية الفلسطينية وبزخم شديد الى ساحة التضامن الشعبي على مستوى العالم. بحيث باتت المشاهد التضامنية التي تعم مدن العالم شبيهة بتلك التي حازت عليها الثورة لفيتنامية وهي في اوج صعودها. أي ان كلما صعد العدو من قمعه فهو لا يخنق المسيرة وانما يفتح امامها افاقا أكثر اتساعا وتأثيرا، الامر الذي يضعه بين حجرين فكل عملية تصعيد من اجل الكسب تمثل في جوهرها خسارة بالنسبة له. وعلى المستوى العملي فقد وفرت المسيرة الفرصة التاريخية لاختبار رديف نضالي سلمي لأشكال النضال المتبعة خاصة العمل العسكري، لقد تجسدت المسيرة السلمية كفعل نضالي مثمر يؤثر في العدو ويستقطب العالم وفي ذات الوقت يمنح العمل العسكري المساحة الكافية للهدوء في الوقت غير المناسب بما يسمح له بمراكمة القدرات والادوات اللازمة للحظة التاريخية المناسبة.
ثالثا: اليات التكيف مع تحديات الاجهاض وتعزيز فرص الانجاز.
ان المضي بالفرصة الى منتهاها، بما يعيه ذلك من ضرورة التكيف مع التحديات على قاعدة تحييدها واجهاضها، يستدعي العمل على اساس مجموعة من المستويات تتلخص فيما يلي:
أولا ــ المستوى الفكري: ويتمثل في ضرورة صياغة وبلورة الرؤية النظرية والفكرية لمسيرة العودة، وذلك في سياق بلورة استراتيجية للفعل التحرري الفلسطيني. كفعل متواصل ودائم من اجل تحويل الحلم الفلسطيني بالعودة الى واقع. وذلك بالاستناد الى ثلاثة مصادر:
اولا: تجارب حركات التحرر الوطني ونضالات الشعوب من اجل تجسيد حقوقها الوطنية والاجتماعية التي شكلت المسيرات الجماهيرية ذات المدى الزمني أحد ادواتها النضالية.
ثانيا: التجربة الوطنية الفلسطينية في النضال الجماهيري منذ عام 1917 وموقع هذه النضالات من الكفاح المسلح كشكل نضالي رئيس، وتجليس عملية التكامل بين مختلف الاشكال النضالية.
ثالثا: استخلاص دروس تجربة المسيرة منذ انطلاقتها 30 مارس حتى 15 مايو. وقراءتها على كافة المستويات النظرية والسياسية والادارية والاجتماعية والصحية والاشكال النضالية والخسائر والانجازات.
ثانيا ــ على المستوى السياسي: ويتمثل في تحديد ثوابت القراءة السياسية للحظة الراهنة بكل جوانبها سواء تلك المتعلقة بالكيفية التي يفكر بها العدو في ادارة الصراع السياسي، او المتعلقة بوعي اهداف المسيرة النهائية وكيفية صياغة التكتيكات القادرة على التعامل مع متغيرات الواقع دون الوقوع في شباكه. وذلك يتطلب ما يلي:
1ــ توحيد الخطاب السياسي والشعارات المرفوعة خلال مسيرة العودة، والاتفاق على رسالة المسيرة في ضرورة تطبيق قرارات الأمم المتحدة الداعية لعودة اللاجئين ورفض الموقف الأمريكي من القدس. وعدم التسرع في الاستغلال السياسي وعيا بدرس الانتفاضة الاولى.
2 ــ والانتباه الى ان رفع شعار كسر الحصار كهدف من اهداف المسيرة مسألة ضرورية لأنه يوفر للناس هدفا قابلا للإنجاز في مدى زمني أقصر، وفي حال تحققه فانه سيوفر للمسيرة طاقة وظروف أفضل لاستكمال طريقها. ومع ذلك ضرورة الانتباه الى طرحه وكأنه هو الهدف الرئيس او بديلا للهدف الرئيس وانما من ضمن الاهداف، مع الانتباه الى عدم الوقوع في شرك الاغواء بمعنى المسيرة مقابل رفع الحصار او رفع الحصار على حساب الاهداف الوطنية للشعب الفلسطيني.
3 ــ العمل المثابر على استعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية على قاعد حماية الثوابت الوطنية المرتكزة للميثاق الوطني الفلسطيني في صيغته الأساسية، والقيام بكل الخطوات اللازمة لإعادة بناء منظمة التحرير المتحررة من افرازات ومترتبات اتفاق أوسلو، والاستفادة مما افرزته مسيرة العودة من إعادة تشغيل التلاحم بين أبناء الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده عبر مشاركته في مسيرة العودة بما تمثله من شكل نضالي يمثل رديفا لكل الاشكال النضالية الأخرى وفي المقدمة منها الكفاح المسلح.
ثالثا ــ على المستوى التنظيمي: ويتمثل في توفير الاليات التنظيمية التي تحافظ على زخم الانخراط والالتفاف الشعبي حول المسيرة، وذلك عبر الأسس الاتية:
1 ــ تحويل المناسبات الوطنية الى محطات ذروة للحشد. في كافة تجمعات الشعب الفلسطيني بشكل عام وفي قطاع غزة والضفة وفلسطين المحتلة 48 بشكل خاص. بحيث تبرز هذه المحطات كلحظات صعود في سياق ديمومة الاستمرار غير المتوقف. بما يعنيه ذلك ان تكون المسيرة فعل نضالي دائم ومستمر بمستوى معين يشهد لحظات صعود في مواسم معينه كالنهر المتدفق الذي يستفيد من فصل الشتاء لرفع منسوبه لكن يحافظ على استمراريته حتى في اوقات الجفاف.
2 ــ تجهيز خيام العودة ونصبها بشكل دائم وثابت وتحويلها الى مؤسسات ومحطات وعي. وفي هذا الجانب يمكن ان تكون مقصدا للرحلات المدرسية والمعسكرات الكشفية والترفيهية. زيارة الوفود التضامنية وان يتولى ادارتها ما يمكن تسميته بدليل العودة الذي يقوم بشرح التاريخ الفلسطيني داخل هذه الخيام. التي يمكن ايضا ان تقام فيا حفلات زفاف ومناسبات اجتماعية مختلفة ونشاطات الفنية مثل معرض الرسم وعرض المسرحيات وغيرها. ومن المهم ان تحمل هذه الخيام اسماء قرى ومدن وشهداء وبشكل مشترك يعزز عملية الاندماج الشعبي.
3 ــ تعزيز صلاحيات اللجان التنظيمية والتثقيف بضرورة والانضباط، لما يصدر عنها في الموقع من قرارات مباشرة. على قاعدة ان المسيرة حتى تحقق اهدافها فهي تحتاج الى مدى زمني طويل يتراكم خلاله الفعل والتأثير، بما يستدعيه ذلك من ضرورة الانتباه الى ان الخسائر المتلاحقة مع بعد المسافة عن تحقيق الهدف قد يؤثر سلبا، اضافة الى الوعي بضرورة تقليل الخسائر غير الضرورية.
4 ــ بناء شبكة لجان للمسيرة ذات طابع شعبي ديمقراطي تخصصي في كافة التجمعات الفلسطينية خاصة المخيمات بوصفها جزء مشارك ومحرك، وفي المهجر الاوروبي. لما للجاليات الفلسطينية من دور فاعل على المستوى الاعلامي واستقطاب المتضامنين.
رابعا ــ على مستوى الاحاطة الاجتماعية والصحية: وضع صيغة تتولى استلام كافة المساعدات المرسلة باسم المسيرة او تحت عنوانها لإعادة توزيعها بشكل عادل ومنهجي، وبعيد عن كل اشكال المحاباة الحزبية او الجهوية والعائلية وغير ذلك من المسميات. وايجاد صيغة للإحاطة الصحية بالجرحى بداية من العمل على توفير الادوية المرتبطة بنوعيات الاصابات التي اصبحت قابلة للتحديد والتحليل ومرورا بكل ما يحتاجه المصاب من رعاية حتى الشفاء وتحمل المسؤوليات الاجتماعية في حال الاصابات طويلة المدى او العجز. ان التعامل مع جرحى المسيرة يشكل أحد اليات كسر اصرار العدو على استعمال صورتهم كأداة ضد المسيرة. وهي مسألة تنبع اهميتها من كون فعل المسيرة هو فعل نضالي تراكمي طويل سيحاول العدو التصعيد من عملية القمع من اجل الاستفادة من نتائجها كعامل ضاغط من اجل كسر المسيرة.
خامسا ـــ على المستوى الاعلامي: تطوير العمل الاعلامي للمسيرة وعدم الاكتفاء بالصفحة الالكترونية. وعلى قاعدة صياغة الرسالة الاعلامية التي تغطي الحدث وتوزع مفاهيمه بمختلف لغات العالم. وصياغة شعار رمزي للمسيرة ( لوجو) موحد يرتكز بشكل اساس على فكرة العودة. ومن ناحية ثانية ممارسة دوره التعبوي والتحريضي والتثقيفي بالنسبة للجماهير.
سادسا ــ على مستوى الدعم والتضامن: ويتعلق بكافة اليات استقطاب الدعم والتأييد والتضامن على الساحتين العربية والدولية، مع الوعي بالفروق والخصوصيات بين الساحات ارتباطا بظروف وشروط العمل فيها والمهام الموكلة بها وتستطيع تحقيقها. فعلى الساحة العربية تبرز مجموعة من المهام المتعلقة بالجماهير العربية وقواها السياسية ومنظماتها المدنية وهي غير منبثقة من حدث المسيرة وانما من مسار التفاعل مع القضية الفلسطينية وقد جاءت المسيرة لتطور هذا العمل وتعطيه زخما وفعلا، بما يجعله يشكل حاضنة فعلية لنضال الشعب الفلسطيني. اما على الساحة الدولية فمن الضروري تركيز العمل في على قاعدة الاستفادة من تنامي وانتشار المقاطعة للكيان الصهيوني وما خلقته مسيرة العودة نتيجة لما تتعرض من قمع من قبل الكيان ولشعار السلمية المرفوع من قبلها، الذي يجد له هوى في اوساط كثير من الاوساط الدولية، وبما يجعل من شعار العودة للشعب الفلسطيني صرخة الحرية لكل القوى الحية في العالم.
خاتمة
لقد شكلت مسيرة العودة من حيث توقيتها وموقعها وحجمها نقطة تحول هامة في مسار التاريخ الوطني الفلسطيني وقادت من الناحية الموضوعية الى نتائج عديدة على مستوى حماية القضية لفلسطينية من الاخطار المحدقة بها وغير ذلك من النتائج ، الا انها تواجه مجموعة من التحديات ممثلة فيما سميناه بالإيذاء والاغواء والانهاء، لكن هذه المخاطر او التحديات تنطوي بدورها على عديد الفرص الفكرية والعملية التي تسمح بالمضي بالمسيرة الى الامام شرط وعي تلك المخاطر والفرص التي يمكن ان تستخلص منها بما يترتب على ذلك من صياغة برامج العمل الضرورية على كافة المستويات الفلسطينية والعربية والدولية التي تضمن للمسيرة ان تواصل طريقها كرديف لمختلف الاشكال النضالية حتى تحرير كامل ارض فلسطين التاريخية.