تحديات إعادة انتاج التمركز الأمريكي في الوطن العربي
عابد الزريعي
مدير مركز دراسات أرض فلسطين للتنمية والانتماء
تسير الولايات المتحدة الامريكية، في سياق تكيفها مع متغيرات الوضع الدولي الراهن، باتجاه تعزيز امساكها بمرتكزاتها الرئيسة في الوطن العربي. دون ان تتخلى عن العمل الذي بدأته منذ فترة، والمتمثل في تعزيز حضورها في اسيا؛ لمواجهة الصين وروسيا. ذلك ان تعزيز الحضور في اسيا وخوض مواجهة ناجعة ــ في التصور الأمريكي ــ ضد روسيا والصين، بات يفرض عليها تعزيز حضورها في المنطقة العربية، سواء كان ذلك بشكل مباشر او غير مباشر. وكذلك العمل على تفعيل دور مرتكزاتها وادواتها في المنطقة. الأمر بات يفرض تحديات متجددة على مجمل فصائل حركة التحرر العربية، التي يبدو ان كثيرا منها يعيش حالة ارتباك في قراءة ما يجري، وما يترتب عليه من مهام. هذا المقال محاولة لألقاء الضوء على هذه المسألة ضمن العناوين الاتية:
أولا: مؤشرات أولية مضللة:
روجت عديد الوسائل الإعلامية، بالتوافق مع اندلاع الحرب في أوكرانيا، اخبارا عديدة مفادها ان توترا يشوب العلاقة بين الامارات والسعودية من ناحية، والإدارة الامريكية من ناحية ثانية. الامر الذي دفع الى الاعتقاد بان الدولتين العربيتين قد التقطتا متغيرات الوضع الدولي، وحزمتا امرهما على الاستفادة القصوى منه. كما ترافق هذا الترويج مع وجهة نظر تقول: ان الولايات المتحدة الامريكية كانت قد حزمت امرها بالتوجه الى آسيا لمواجهة مخاطر صينية أو روسية محتملة في تلك المنطقة. وبالتالي لم تعد المنطقة ذات أهمية ضمن سلم حساباتها الاستراتيجية. وقد تعزز هذا التصور في أجواء من الفتور السياسي الأمريكي تجاه المنطقة منذ صعود بايدن الى رأس الهرم السياسي في يناير 2021، وذلك قياسا الى مرحلة الرئيس السابق ترامب. وفي هذا المناخ بثت مختلف الوسائل الإعلامية عديد الاخبار السياسية اليومية التي تدعم مثل هذا الاعتقاد. ومن بينها توتر العلاقات الأمريكية الخليجية على خلفية ملفات حقوق الإنسان، والحرب في اليمن، وتوريد الأسلحة للأمارات والسعودية اللتان بدأتا في طرق الأبواب الروسية والصينية للتزود بالسلاج. وكذلك رفض السعودية الاستجابة للطلب الأمريكي بضخ كميات إضافية من النفط للحد من ارتفاع الأسعار. ودعوتها الرئيس الصيني لزيارة المملكة في شهر رمضان. وامتناع الإمارات، التي تترأس مجلس الأمن الدولي في آذار/ مارس، عن التصويت، في 25 شباط/ فبراير، لمشروع قرار أميركي يندّد بغزو أوكرانيا، ويطالب روسيا بالانسحاب. وقيل ان ابن سلمان وابن زايد قد رفضا الرد على اتصال هاتفي من بايدن نفسه. لكن وعلى الرغم من أهمية ودلالات هذه الاحداث السياسية، وبغض النظر عن مدى دقتها الحرفية، الا انها تندرج في سياق الشروخ القابلة للمعالجة، ولا يمكن لها ان تصل الى مرحلة الكسر والقطيعة لأسباب عديدة.
ثانيا: مرتكزات قديمة ومتجددة:
ان الولايات المتحدة التي جسدت حضورها في المنطقة، كوريثة للإمبراطورية البريطانية، قد أدركت منذ البداية الخصوصية الاستراتيجية للمنطقة، بوصفها المركز الأهم للصراع الدولي، منذ الصراع البريطاني الفرنسي وسعي بريطانيا لتأمين طريق الهند. وهو المسار الذي تم خلق واختلاق إسرائيل في سياقه. وعلى أرضية هذا الادراك ضبطت سياستها منذ البداية على ضوء ثلاثة قضايا استراتيجية أساسية، وهي إدارة مقتضيات الحرب الباردة، ومصادر الطاقة، وإسرائيل. وهي قضايا أخذة في التجدد ارتباطا بمتغيرات الوضع الدولي للأسباب الاتية:
1 ـــ ان التراجع عن الحضور القوي في هذه المنطقة، يفتح المجال لتقدم قوى أخرى. فقد بقيت المنطقة طوال عقود ساحة تنافس على النفوذ بين القوتين العظميين ــ لأسباب متباينة ـــ وإذا كان الاتحاد السوفييتي قد سقط وتلاشى دوره، فقد عاد الصراع ذاته في صيغة روسيا الاتحادية الناهضة من وسط الركام الذي خلفه الانهيار. وفي هذا الصدد باتت أمريكيا تدرك ان الابتعاد عن المنطقة يعني ترك موقع استراتيجي ستملأه ذات القوى، التي تريد ان تذهب لملاقاتها في اسيا، وبالنتيجة تعزيز قدرة تلك القوى بدلا من تقويضها.
2 ــ ان تأمين مصادر الطاقة، أصبح أكثر أهمية مما سبق، خاصة وقد أصبح النفط والغاز أحد اهم الأدوات التي يدار بها الصراع من الجانب الروسي، لتقليل انعكاسات العقوبات الامريكية الاوربية عليه وخلق التناقض بينها وحلفائها الاوربيين.
3 ــ ان الحاجة الي إسرائيل اخذه في التجدد كأداة وظيفية في المنطقة، يمكن الاعتماد عليا في تعزيز ودعم القضيتين السابقين بشكل أساس. كما ان هذه الأداة أصبحت ذات مصلحة مباشرة ترقى بها الى مستوى الشريك في إدارة المنطقة الاستراتيجية.
ثالثا: لا مجال للحياد والابتعاد.
ان القضايا الثلاث السابقة تضع المنطقة العربية على رأس سلم أولويات أمريكيا. وتفرض عليها ان تكون أكثر حرصا على تعزيز حضورها، وذلك ارتباطا بتطور صراع التغيير الدولي. الأمر الذي يجعلها معنية بفرض وانتزاع مواقف أكثر وضوحا من قبل حلفائها في المنطقة. وفي هذا الصدد جاءت قمة النقب بحضور وزير الخارجية الأمريكي للجزائر، والحديث عن زيارة مرتقبة من قبل بايدن الى إسرائيل. التي كانت الأسبق الى إدراك جوهر الموقف والتوجه الأمريكي. فغيرت موقفها بشكل سريع من الحرب الروسية في أوكرانيا، من الحياد الى محاولة الوساطة، ثم الانحياز وارسال او التغاضي عن ذهاب مقاتلين اسرائيليين الى أوكرانيا كصيغة قصوى للتكيف مع الموقف الامريكي. أما بالنسب للدول العربية التي تدور في الفلك الأمريكي، التي نأت بنفسها عن انتقاد روسيا، وإبداء موقف من الأزمة المتصاعدة بين موسكو والغرب، فقد عادت وانضبطت في النهاية للموقف الأمريكي واخذت موقفا سلبيا من روسيا. الامر الذي تجلى بتاريخ 2 آذار/ مارس 2022، حيث صوتت 15 دولة عربية لصالح قرار إدانة روسيا في الجمعية العامة للأمم المتحدة وهي: (مصر، والبحرين، والكويت، ولبنان، وليبيا، وموريتانيا، وعمان، وقطر، والسعودية، وتونس، والإمارات، واليمن، وجزر القمر، وجيبوتي، والصومال).
رابعا: عوامل مساعدة
هناك مجموعة عوامل مساعدة لتعزيز التمركز الأمريكي في المنطقة، تتبدى أولا في وجود وضع رسمي عربي بات متكيفا في غالبيته مع السياسة الامريكية، التي استطاعت على مدى العقود الماضية من تخليق بنية ارتباط عميقة مع هذه الانظمة التي رهنت استمرار وجودها بإعادة انتاج بنية الارتباط هذه، التي تشكل بالنسبة لها ركيزة أمن أساسية. وثانيا في انخراط عديد الأنظمة في مسار التطبيع مع إسرائيل الامر الذي لم يكن متوفرا في عقود سابقة. الامر الذي يسهل على أمريكيا تشكيل جبهة ملتفة حولها بمشاركة عربية إسرائيلية. بما يعنيه ذلك من العمل على جعل التطبيع عنوان للسياسة الامريكية في المنطقة كاستمرار لخط ترامب. الامر الذي تبدى من خلال عديد المؤشرات حتى على المستوى الداخلي الأمريكي، وفي هذا السياق لعلينا التوقف امام تصريح ولي العهد السعودي بان إسرائيل ليست عدوا، وكذلك الظهور المفاجئ لكوشنير ونسجه لعلاقات مالية بين السعودية وإسرائيل. وبالتوازي مع ذلك جملة الضغوط التي تمارس على بعض البلدان العربية من المدخل الاقتصادي للدفع بهذا الاتجاه.
خامسا: تحديات قائمة وقدرات غائبة
يشكل عامل التطبيع الالية الأكثر خطورة في إعادة انتاج الحضور الأمريكي في المنطقة، لأنه موضوع للاشتغال من قبل أمريكيا من ناحية، والدول العربية المطبعة من ناحية ثانية، حيث يستفيد الطرفان في الدفع بعجلة التطبيع الى الامام من المشاكل الداخلية والاقتصادية التي تعاني منها بلدان عربية أخرى، خاصة تلك التي لا تقف على أرضية سياسية صلبة فيما يخص الموقف من الكيان الصهيوني. تلك البلدان التي تتطلع الى معالجة تلك المشاكل عبر قروض الصندوق الدولي، والدعم المالي الخليجي. الامر الذي يفرض عليها خيارات سياسية تتوافق مع الخيارات الامريكية والإسرائيلية وأنظمة التطبيع. التي باتت مكلفة ومعنية باستخدام علاقاتها وقدراتها المالية لجر دولا عربية أخرى من خلفها. وإذا كان هذا الوضع قد بات يشكل خطرا وتحديا منتصبا بالأساس امام فصائل حركة التحرر العربية بمختلف مشاربها. الا ان الملفت للنظر ان بعض أطرافها باتت تعاني ارتباكا في قراءة المشهد السياسي الدولي ومترتباته الإقليمية، فنجدها تشن حملة على روسيا بسبب أوكرانيا تحت شعار القيم الديمقراطية، بما يعنيه ذلك من جاهزية نفسية للتكيف مع الموقف الأمريكي. وبعض منها ومن موقع الصراع الأيديولوجي مع تنظيمات الإسلام السياسي، راح ينظر ويقترب من أنظمة تسوية وتطبيع بحجة انها تصارع الإسلام السياسي، الا مر الذي يكشف عن عدم استقامة في قراءة وتحديد التناقض الرئيس في المنطقة. هذا إضافة الى النزعة القطرية التي اخذت تستشري في مفاصل حركة التحرر العربية. يضاف الى ذلك الركون في كثير من الأحيان الى نوع من التبسيطية المريحة للذات لكنها لا تغير في الواقع، ان لم تزيف قضاياه وتحدياته الرئيسة.
خاتمة: على ضوء هذه القراءة المتواضعة نجد من الضروري الدعوة الى لقاء موسع لكل فصائل حركة التحرر العربية المعنية، يكون بمثابة مؤتمر قومي حقيقي، معني بمسألتين، أولهما تقديم تصور نظري واضح الأسس والمعالم، يشكل مرشدا لحركة التحرر العربية في المرحلة القادمة، وبلورة اليات وأدوات عمل حقيقية وقادرة على التكيف مع المتغيرات والفعل والتأثير في الواقع، بما يعنيه ذلك من الجمع الخلاق بين الفكر والعمل، النظرية والممارسة.