مقالات و دراسات

حتى لا تبقى الحركة الوطنية الفلسطينية بين مطرقة الاستسلام وسنديان الانقسام

د. عابد عبيد الزريعي

يتكشف يوما بعد يوم أن الهدف الإسرائيلي من التوقيع على اتفاق أوسلو يتلخص في توفير وخلق البيئة الموضوعية المنتجة للعوامل التي تدفع بالحركة الوطنية الفلسطينية نحو التآكل التدريجي، الناجم عن وضعها وبشكل حاسم أمام خيار الاستسلام السياسي في حال قبول كل فصائلها بالاتفاق بكل ما يتضمنه من تنازلات سياسية مبدأيه تمس جوهر المشروع الوطني الفلسطيني من ناحية، أو خيار الانقسام في حال رفضه من ناحية ثانية.

الأمر الذي يجعل من تجاهل هذه الحقيقة خلال رحلة البحث عن مخرج من المأزق الذي تتخبط فيه الحركة الوطنية الفلسطينية، عملية إعادة إنتاج للمأزق ذاته ولكن بطريقة مركبة ومكثفة. وفي هذا السياق تندرج وصفة الخروج من الانقسام التي تطلب من حركة حماس حل حكومتها والذهاب فورا إلى الانتخابات التشريعية. فمثل هذا الأمر لن ينتج إلا استسلاما أو انقساما جديدا في الساحة الفلسطينية، فالانتخابات التي يطالب أكثر من طرف بالتسريع في عقدها بوصفها المفتاح السحري للخروج من الأزمة لن تقود إلا إلى أحد نتيجتين، فإما أن تفوز حركة فتح بهذه الانتخابات، بما يترتب على ذلك من انضواء الجميع تحت راية السلطة وبالنتيجة الاستسلام لمقتضيات اتفاق أوسلو، لينفتح الباب أمام مطالبة السلطة بسحب سلاح المقاومة من غزة. وإما أن تفوز حركة حماس وبالنتيجة مطالبتها بالالتزام بما هو مفروض على السلطة من التزامات لتجد نفسها أمام خيار الاستسلام أو الانقسام من جديد.

وعلى ضوء ذلك فان معالجة المأزق الفلسطيني يجب أن تتم من خارج اتفاق أوسلو وليس من داخله ودون أن يعني ذلك إلغاء الاتفاق أو حل السلطة القائمة، فمثل هذا التصور ينضوي على نوع من المغامرة السياسية والتنظيمية غير محسوبة النتائج، لاسيما وان عناصر القوة الذاتية في اللحظة الراهنة تحول دون ذلك.

ولمواجهة الوضع القائم يستدعي الأمر القيام بعملية إبراز وتشخيص لأحد اخطر النتائج التي ترتبت على اتفاق أوسلو والتي تمثلت ولأول مرة في التاريخ الوطني المعاصر في إيجاد بنيتين تنظيميتين للشعب الفلسطيني هما:

الأولى: بنية منظمة التحرير الفلسطينية وهي البنية التنظيمية التاريخية التي قادت النضال الوطني لأكثر من أربعين عاما، وتميزت بكونها البنية الجامعة التي وحدت كل أبناء الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجدهم تحت رايتها,

الثانية: بنية السلطة الوطنية الناتجة عن الاتفاق والتي ينضوي في اطارها أبناء الضفة الغربية وقطاع غزة، أي كجزء من الشعب الفلسطيني.

إن الحل الخلاق لإشكالية العلاقة بين هاتين البنيتين يشكل المدخل الذي يسمح بفتح ثغرة واسعة في جدار الحصار الذي فرضته إسرائيل على الحركة الوطنية الفلسطينية، مستفيدة من التحكم الكلي بإيقاع العلاقة بين القضايا المطروحة في الاتفاق وتلك الغائبة عنه، والسيطرة على حق التفسير لبنوده وكيفية تطبيقها على ارض الواقع بما يتفق مع مصالحها وفي ظل عدم وجود أية مرجعية دولية ضامنة.

والحل المقترح ينطلق من بديهية فكرية مفادها تبعية الجزئي للكلي، أي أن تتبع السلطة كبنية ثانوية جزئية للمنظمة كبنية كلية أولية. ويتمثل الاستحقاق السياسي المترتب على هذا التصور التحرك أولا من اجل انجاز الكلي وهو تحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية على مستوى منظمة التحرير بوصفها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده، ثم التحرك نحو انجاز الجزئي وهو إنهاء وحل معضلة الانقسام بين غزة ورام الله بوصفه موضوعا جزئيا وليس العكس. إن جوهر هذا التصور يقود من الناحية الإستراتيجية إلى تحرير منظمة التحرير من تبعات اتفاق أوسلو وذلك من خلال الفصل بين الخطوتين من الناحية الترتيبية ويؤكد على عدم الدمج بينهما لأسباب ترتبط بمستقبل النضال الفلسطيني وبكيفية إدارة الصراع وتحويل الأدوات التي أرادت إسرائيل أن تخنق الحركة الوطنية من خلالها إلى أدوات تستطيع الحركة الوطنية الفلسطينية أن تطعنها بها. بينما تدفع اغلب المعالجات في الساحة الفلسطينية وآخرها أطروحات السيد نايف حواتمة أمين عام الجبهة الديمقراطية على الدمج الفعلي بين البنيتين في التعامل مع اتفاق أوسلو الأمر الذي يقطع الطريق على فرصة تاريخية تتشكل أمامنا وهي تحرير البنية الفلسطينية الشاملة “منظمة التحرير” من ربقة هذا الاتفاق ومنحها هامشا واسعا من الحرية في إدارة الصراع مع إسرائيل. إن مثل هذه الأطروحات لن تقود في نهاية المطاف إلا إلى ربط مصير الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده باتفاق أوسلو وإفرازاته التي تتبدى أمامنا يوما بعد يوم في صورة تآكل للحركة الوطنية الفلسطينية وتراجع متسارع للمشروع الوطني.

هذا وتتلخص الخطوات العملية لانجاز التصور الذي اشرنا اليه فيما يلي:

أولا: البدء بإعادة بناء منظمة التحرير كأداة كلية وجامعة لأبناء الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجدهم وعلى أرضية المشروع الوطني الفلسطيني الشامل بما يعنيه ذلك من حضور حق العودة وكصيغة متحررة من كل الاشتراطات والمحددات المتضمنة في اتفاق أوسلو.

ثانيا: تأخذ منظمة التحرير على عاتقها الإشراف على إعادة بناء كل مفاصل الجسد الفلسطيني ضمن الرؤية الكلية للمشروع الوطني وليس تلك الرؤية المجتزأة التي تختزل المشروع الوطني في حدود سلطة اتفاق أوسلو.

ثالثا: تأخذ المنظمة على عاتقها مسؤولية الإشراف على عملية إنهاء الانقسام داخل السلطة الوطنية التي يتحدد وضعها كأداة من أدوات منظمة التحرير وليس العكس بكل ما يترتب على ذلك من ترتيبات أدارية وتنظيمية لا تمس من بقاء السلطة، لكنها تدفع وبشكل تدريجي وصبور إلى تحويلها من أداة وظيفية كما أرادتها إسرائيل إلى أداة نضالية كما يريدها الشعب الفلسطيني.

رابعا: تمهيدا للشروع في تنفيذ الخطوة الأولى يتم الاتفاق على صيغة تنظيمية لإدارة أوضاع قطاع غزة تساهم وتشارك فيها كل الفصائل الفلسطينية وعلى قاعدة التوافق الفلسطيني العام، مع توافق ذلك مع فتح المجال للعمل السياسي المفتوح لكل القوى في الضفة بعيدا عن المضايقة أو الاعتقال,

لقد آن الأوان للتحرك بديناميكية من اجل مراكمة عناصر القوة التي لا تقف عند حدود حماية المشروع الوطني الفلسطيني بمفاصلة الأساسية والحركة الوطنية من التآكل فقط، ولكن تتجاوز إلى المضي نحو التحقيق الواقعي لمفاصله والتقدم نحو تحقيق الانتصار، لاسيما وان إسرائيل تمر بلحظة ارتباك تاريخية على الرغم من كل الضجيج الذي تثيره من حولها والذي لا يعدو عن كونه وسيلة لمداراة وهنها الذي يتبدى في ظل ظهور ملامح تحولات دولية وإقليمية لغير صالحها

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق