طوفان الاقصى واستعادة الجغرافيا المسروقة، هل كان لنا ان ندخل الأرض بدون سلاح؟
د. وائل الزريعي – مركز دراسات ارض فلسطين للتنمية و الانتماء
في البدء كانت فلسطين تاريخا وجغرافيا٬ فمنذ حوالي 1.5 مليون سنة بوادي النطوف قرب القدس سكن الانسان هذه الارض، وعلى ارض اريحا زرع الانسان و حصد منذ 10000 سنة قبل الميلاد ليشكل اقدم المستوطنات الزراعية التي عرفتها البشرية. لقد تشكلت الابعاد الجغرافية والتاريخية لهذه الارض، بوجودها على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، وتوسطها بين قارتي آسيا وإفريقيا، كما شكلت التضاريس و المناخ هذا الفردوس بسهوله الخصبة وتلاله واغواره، الى صحرائه جنوبا. هذه البوتقة صهرت الانسان الفلسطيني و ربطته بهذه الأرض فسكن كل جنباتها و اطلق الأسماء على كل ركن فيها، ففيها القدس، و يافا، و حيفا، ونابلس و الخليل ، و غزة و بئر السبع. لقد عرف الفلسطيني الأرض وعرفته وأعطاها واعطته من ثمارها و خيراتها، شكلها و شكلت عاداته و تقاليده و تراثه. لقد كانت ارض فلسطين نعمة على سكانها بخصوبتها، و بفضل موقعها على طرق التجارة القديمة التي تربط بين مصر وبلاد الشام وبين البحر المتوسط والجزيرة العربية، أصبحت فلسطين مركزًا تجاريًا نشطًا، كما لعبت مدنها الساحلية مثل يافا وحيفا دورا هاما كموانئ للتجارة البحرية. لقد تداخلت الأبعاد الجغرافية بالإضافة للأهمية الدينية لتشكل الهوية الجغرافية والتاريخية لهذه الارض، وترسيخ مكانتها في مسار الحضارة الإنسانية. اما موقعها الاستراتيجي كملتقى للقارات فقد جعل منها مطمع لكل من أراد ان يحكم العالم. لذلك مرت فلسطين بتاريخ سياسي معقد نتيجة للصراعات والحروب المتعددة على أرضها عبر العصور، منذ الحضارات الاولى الفرعونية والاشورية، الى الحملات الصليبية، ثم تحت الحكم العثماني، فالانتداب البريطاني. لكن في تاريخ هذه الأرض تبقى النكبة عام 1948 حدثا فارقا، بل زلزالا ضرب ابعاد الجغرافيا الفلسطينية الطبيعية، والديموغرافية والسياسية، لقد تسببت النكبة في تحولات في البنية الجغرافية للإقليم الفلسطيني فقيام دولة الاحتلال على ارض فلسطين التاريخية، أدى الى سلسلة من الكوارث و المآسي:
1.التهجير السكاني مع نزوح حوالي 750000 فلسطيني من منازلهم خلال حرب 1948، وانتقال العديد منهم إلى مناطق أخرى داخل فلسطين التاريخية، ولجوء البعض الآخر إلى الدول المجاورة مثل الأردن، لبنان، سوريا، ومصر. مما أدى إلى تغيير التركيبة السكانية للمنطقة بشكل جذري، كما أدى النزوح الى تغيير التركيبة الديمغرافية للمدن والقرى الفلسطينية.
- تدمير قرى ومدن فلسطينية بالكامل أو جزئيًا، مما أدى إلى محو وجودها من الخارطة. حيث قدر عدد القرى المدمرة بحوالي 500 قرية، والعديد من هذه القرى لم يعاد بناؤها، وبقيت في حالة خراب أو تم تحويل أراضيها إلى استخدامات أخرى.
3.إعادة التسمية وإعادة توزيع الأراضي من قبل الكيان الصهيوني، حيث عمدت سلطات الاحتلال الى تغيير أسماء العديد من القرى والمدن الفلسطينية إلى أسماء عبرية، مع أعادة توزيع الأراضي التي كانت مملوكة للفلسطينيين على المستوطنات الصهيونية الجديدة. - إنشاء مخيمات اللاجئين في المناطق المجاورة لفلسطين وفي الضفة الغربية وقطاع غزة لاستيعاب الفلسطينيين الذين هجروا من ديارهم. هذه المخيمات أصبحت مراكز تجمع رئيسية للفلسطينيين النازحين، كما تحولت مع الوقت إلى مجتمعات مستقرة، ولكنها تفتقر إلى الكثير من الخدمات الأساسية وتواجه تحديات اجتماعية واقتصادية كبيرة.
- التغيرات في البنية التحتية مع تحول السيطرة على الأراضي من الفلسطينيين إلى الصهاينة، حيث شهدت المناطق المحتلة تغييرات كبيرة في البنية التحتية، بما في ذلك بناء الطرق والجسور والمرافق العامة الجديدة بما يخدم مصالح الاحتلال، وعلى حساب السكان الاصليين.
- التدمير الواسع للقرى والأراضي الزراعية أدى إلى تغيرات في البيئة الطبيعية، من إزالة للمساحات الطبيعية والغابات لبناء المستوطنات، الى تحويل الأراضي الزراعية إلى أراض مبنية، وتغيرات في استخدام الموارد الطبيعية.
7.تدهور وتقويض الحياة الاجتماعية والاقتصادية للسكان الأصليين بفعل ممارسات الاحتلال التي تستهدف التخلص من اكبر عدد ممكن، من خلال تضييق جميع سبل العيش و نشر الفقر و البطالة بين الفلسطينيين.
8.التأثير على الحدود السياسية، حيث أدت النكبة إلى تغييرات جوهرية في الحدود السياسية في المنطقة، فقامت دولة الاحتلال على الجزء الأكبر من الأراضي الفلسطينية، بينما أصبحت الضفة الغربية تحت الإدارة الأردنية وقطاع غزة تحت الإدارة المصرية حتى حرب 1967، وما تبعها من اتسع الرقعة التي يسيطر عليها الاحتلال وصولا الى اتفاق أوسلو والذي لم يمنع الاحتلال من توسيع سيطرته طبقا لمخططاته و كلما سنحت الظروف الإقليمية والدولية.
لقد أدت النكبة الى اعادة تشكيل الجغرافيا الفلسطينية بل جغرافيا المنطقة العربية بما تركته من تداعيات طويلة الأمد، وهي ما زالت تؤثر على الوضع الجيوسياسي والديمغرافي في المنطقة حتى يومنا هذا. شكل قيام دولة الاحتلال على ارض فلسطين التاريخية، سرقة العصر، التي هندستها القوى الامبريالية لتمنح قطعة من ارض العرب لا تملكها لمن ليس له الحق في شبر منها. فعلى طبق من فضة سلمت القوى الامبريالية ارض فلسطين للعصابات الصهيونية، ليكون الاحتلال الصهيوني الراعي الدائم لمصالح الغرب في المنطقة، وقاعدته العسكرية المتقدمة. منذ النكبة لم يوفر الشعب الفلسطيني دمائه وأبنائه في سبيل استعادة وجوده وارضه المسروقة. ورغم التباينات الفلسطينية، الا ان فلسطين كانت دوما وابدا المراد والفردوس المفقود. منذ قيام الكيان الصهيوني على هذه الأرض والعدو يدرك ان ترسيم وجوده لا يمكن ان يكون دون اعتراف الاخر به فكان التطبيع واول شرخ في الجدار العربي كان كامب ديفيد.
تغير العالم مع انهيار الاتحاد السوفيتي واختلال موازين القوى العالمية، و بروز عالم أحادي القطبية ، ففقد البعض الايمان بحتمية التحرير، وانزلق وراء أوهام السلام العادل، ليكون أوسلو الفخ الذي نصب للفلسطيني وجره الى استقلال مزيف، في الوقت الذي يستكمل فيه الاحتلال الصهيوني سرقته للجغرافيا الفلسطينية عبر السيطرة على مزيد من الأرض وبناء المستوطنات، الى مزيد من فرض وجوده، و دوره كفاعل طبيعي في المنطقة العربية، و تصدع جدار الرفض العربي للكيان عبر اختراقات سياسية هنا وهناك، لتكون صفقة القرن و الاتفاقيات الابراهيمية الأخيرة شهادة زور على حق الكيان في ارض فلسطين.
سيف القدس هادم الاسوار
لم يشبع أوسلو نهم الاحتلال لمزيد من السيطرة على الأرض، و لم ترضيه كل التنازلات، وخلال سنوات الاحتلال التي تجاوزت76 عاما، بسيكولوجية السارق عمل الاحتلال على حماية نفسه من سكان الأرض في كل شبر، وبشتى الطرق والوسائل فحاصر الفلسطينيين في “جيتوهات”، واعتلى قمم الجبال بمستوطناته، وبنى جداره العازل، وجعل الفلسطيني مراقب في كل مكان، وامعانا في سرقة الأرض قرر الاحتلال في مايو 2021 تهجير عوائل فلسطينية من سكان حي الشيخ جراح بالقدس، لتمهله المقاومة فسحة من الزمن ليعود عن غيه، لكنها العزة بالإثم و الدعم الأمريكي الغير مشروط، فكان سيف القدس ابلغ الردود ، و لأول مرة تصبح فلسطين كل فلسطين تحت مرمى السلاح الفلسطيني، لقد رد الاحتلال على ما اطلقته المقاومة من قطاع غزة بعملية “حارس الاسوار”، ربما لأنه ادرك مع انطلاق رشقة الصواريخ الأولى من قطاع غزة لتغطي الجغرافيا الفلسطينية ان الاسوار التي امضى سنواته في بنائها قد أصبحت آيلة للسقوط بفعل الصواريخ التي تتهاطل على مدنه، والجماهير الهادرة من انحاء الوطن السليب و التي التحمت لأول مرة لتحمي “العاصمة”. بسيف القدس أصبحت جغرافيا الاحتلال تحت مرمى نيران صاحب الأرض، وانتقلت المعركة إلى عمق العدو الجغرافي.
هل كان لنا ان ندخل الأرض بدون سلاح؟
يوم السابع من أكتوبر عام 2023 كان لجغرافيا فلسطين موعد مع التحرير فقد انطلقت الرشقات الصاروخية من قطاع غزة، لتغطي اللد، وعسقلان، واسدود و القدس، ليبدأ العبور مع هدم السياج الفاصل بين قطاع غزة و الأراضي المحتلة . يوم السابع من أكتوبر اهتزت الأرض المحتلة وربت عندما لامستها اقدام ابنائها، ونقلت شاشات العالم بكاء شبان لم يعيشوا النكبة هاتفين “رجعنا لبلادنا”. وكما كانت النكبة هزة عنيفة للجغرافيا الفلسطينية بأبعادها الطبيعية والبشرية والسياسية، فلابد للتحرر ان يكون حالة عنيفة كما يصفه المناضل فرانس فانون في كتابه معذبو الأرض، فالتحرر كالحمى التي تصيب الجسد عندما تقوى مناعته في مواجهة المرض. بعد سنة على عبور المستحيل يمعن الاحتلال في القتل والتدمير في محاولة لقتل هذه الروح التي ولدت في السابع من أكتوبر، لكن الوقت قد فات، فقد جرف الطوفان الاسوار مع اول اجتياز للسياج الفاصل بين قطاع غزة وأراضينا المحتلة، فبهذه الروح سيصمد الفلسطيني ويستمر مستذكرا وصية الشهيد باسل الاعرج لشعبه ” عش نيصا وقاتل كالبرغوث”. باستمرار المقاومة والصمود ستهدم اسوار الاحتلال، ويزول اسمه ووجوده من خارطة المكان، لتعود الأرض الى عاشقها كما كانت تمسي دوما فلسطين.