كسر حلقة التكيف مع التطبيع كمهمة راهنة لحركة التحرر العربية
عابد الزريعي
مدير مركز دراسات ارض فلسطين للتنمية والانتماء
يحفل تاريخ الصراع مع العدو الامبريالي والصهيوني بعديد الاحداث والوقائع التي تنضوي على عبر ودروس يمكن الاستفادة منها في مواجهة عديد القضايا التي يفرزها ذلك الصراع بشكل يومي ومتكرر في كثير من الأحيان. ومن بين تلك الوقائع اثنتان مازالتا حاضرتان على سطح الذاكرة، ولم تنزلقا بعد الى عمقها حتى يصعب الاستدلال عليهما واستحضارهما. الواقعة الأولى تعود الى قرار الرئيس الأمريكي السابق ترامب، بالاعتراف بالقدس عاصمة “لإسرائيل”. والثانية تعود الى الأجواء التي سادت بعد توقيع اتفاقيات ابراهام التطبيعية. تتبدى الواقعة الأولى في تقدير أوساط القرار الأمريكي لحدود ردود الفعل العربية على قرار بهذا الحجم، حيث وضعت في الحسبان ان ردود الفعل في الشارع العربي لن تتجاوز الشهر ثم تنتهي، وبالتالي لابد من اخذ الحذر خلال هذه المدة. وقد ثبت ان التقدير كان قد بني على المدى الأقصى؛ لأن ردود الفعل لم تصل الى حدود الأسبوعين. وتتبدى الواقعة الثانية في مسارعة وزارة الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلية (حلت لاحقا) بدراسة ردود الأفعال على تلك الاتفاقيات من خلال قراءة وتحليل حوالي 100 مليون تعليق على صفحات التواصل الاجتماعي خلال الفترة من 12 أغسطس الى 5 سبتمبر 2020، وكانت النتيجة ان هناك 90 بالمائة يرفضون الاتفاقية والتطبيع بتفاصيل متعددة، بما ترتب على ذلك من تقديم مقترحات وتوصيات الى صناع القرار، ثم أجريت دراسة ثانية في فبراير 2021 انتهت الى ان المواقف السلبية من التطبيع قد انخفضت بنسبة 20 بالمائة. وقد ترتب على ذلك ايضا تقديم توصيات جديدة لصانعي القرار ليعملوا على هديها من اجل تعميم التطبيع على الساحة العربية. نستنتج من هاتين الواقعتين ان العدو في ادارته للصراع يعمل على دفع الخصم الى تقليص الحد الزمني لرد الفعل المعاكس والرافض لقرار او موقف او ممارسة سياسية من قبله الى ان يصل به الى التكيف النفسي السياسي معه. وتأخذ عملية التكيف في هذه الحالية طابع الانتقال من التعبير المعلن عن الرفض بما ينضوي عليه من دلالات اشتباك عامة ومفتوحة، الى نوع من التململ الذاتي المفرغ من أي صيغة عملية وعامة، وسط أجواء من الانطوائية والانعزالية واللامبالاة السياسية. ليشكل ذلك إشارة للقوى صاحبة الموقف المرفوض بان الساحة باتت فارغة والطريق امامها بات مؤمنا، لتنتقل من موقع الدفاع عما قامت به الى موقع المراكمة عليه من خلال القيام بأفعال جديدة. وفي هذا السياق تشكل حالة التكيف السياسي مع التطبيع من عدمه أحد تجليات الصراع التي تسعى قوى التطبيع الى فرضها وتعميمها، وذلك باللجوء الى تكتيك الضربات المتلاحقة التي ترهق القدرة على ردة الفعل. وتحول حدث التطبيع الى امر معتاد ومألوف على مستوى الرؤية البصرية لشخوصه اثناء اللقاءات والتفاعلات الجارية بينها، والتلقي الذهني المتكرر لمضامينه، بما يقود الى شل ردة الفعل عليه نتيجة التعود على الحدث. وبالنتيجة فان الدخول في حالة التكيف، وهو دخول لا واعي في اغلب الأحيان، يعني الانكفاء امام قوى التطبيع واخلاء الساحة امامها. كل الوقائع الماثلة امامنا تشير الى ان قوى التطبيع ومن معها وخلفها قد بنت سياسة فعلها على هذا الأساس، خاصة بعد الدخول في مرحلة اتفاقات ابراهام، بل يمكن القول الى انها مضت على أساس بناء مشهد التوقيع بكل ما احاط به من ضجيج اعلامي وترويج، ليس بهدف الإعلان فقط، وانما لامتصاص ردود الفعل خلال مدى زمني محدد، ليبدأ بعد ذلك تكريس وقائع التطبيع الفعلية. فمن الملاحظ ان الاتفاقيات الجزئية الموقعة والتي شملت في توقيتات زمنية مختلفة كافة القضايا ذات الطابع الاستراتيجي للتطبيع، تنضوي على ما هو أكبر وأخطر من مشهد التوقيع بكثير، لكن ردود الفعل المسجلة عليها جاءت أصغر بكثير من ردود الفعل على مشهد التوقيع. ذلك يعني ان مشهد التوقيع يندرج في سياق الصدمة بينما الاتفاقيات الجزئية تندرج في سياق التكيف من قبل القوى الرافضة للتطبيع في حد ذاته. هذا ويتبدى التكيف مع التطبيع في الساحة العربية بمستويين:
أولا المستوى الرسمي، ولأسباب عديدة أصبح متكيفا وقابلا باتفاقات ابراهام، تحت شعار سيادة الدول الموقعة، تلك السيادة التي صارت بمثابة الدرع الواقي من أي انتقاد او اعتراض، وهو ما تم تكريسه رسميا من خلال بيان مجلس وزراء خارجية جامعة الدول العربية بعد توقيع تلك الاتفاقيات. ولان الامر كذلك فقد بات الباب مشرعا لأية دولة تريد ان تمضي في ذات الاتجاه، بعد ان ضمنت عدم وجود أي اعتراض رسمي عربي على موقفها، كون الامر يتعلق بسيادتها الوطنية. كما بات الباب مقفلا امام تشكيل اية تحالفات رسمية بين دولتين او أكثر لمواجهة هذا المسار، وأصبح الموقف الرافض لهذه الدولة او تلك يندرج في سياق المفكر فيه، وليس المعلن عنه والممارس في مواجهة اية دولة أخرى، ويتضح الامر أكثر إذا تم مقارنته بالتحالفات التي شكلت ردا على زيارة السادات للقدس مثل جبهة الصمود والتصدي في ذلك الحين.
ثانيا: على المستوى الشعبي: تبدت حالة التكيف مع التطبيع فيما نشهده من تقلص كبير في الموقف الممارس ضد التطبيع، للغالبية العظمى من فصائل حركة التحرر العربية بمختلف تلاوينها السياسية، سواء القطرية منها او القومية. وهي مسألة ليس لها علاقة بالموقف من التطبيع في حد ذاته، وانما بالعمل في مواجهته بهدف اسقاطه، او على الأقل منعه من التقدم والتوسع. وهو عمل يفرض كل اشكال النضال الجماهيري المباشر وغير المباشر، لكي تبقي مقاومة التطبيع عنوانا مشرعا ومطروحا بالمعنى العملي، المستمر والمتراكم بعيدا عن الأفعال المتقطعة والمتباعدة، وغير الخاضعة لاستراتيجية واضحة المعالم والاتجاه. ووصل الامر الى ان عديد البيانات الصادرة، او الدعوات لا يجاد تشكيلات ما، يمكن ادراجها في سجل رفع العتب أكثر من كونها دعوات للممارسة العملية والانجاز، بدليل ان لا أحد يواصل الطريق لتحويل ما سبق ودعي اليه الى حقيقة واقعة.
وتتلخص الأسباب التي تقف خلف عملية التكيف مع التطبيع، في سطحية الوعي بالخطر الذي يشكله الكيان الصهيوني على المستوى العربي لدى عديد القوى. فاذا كان الوعي الشامل بخطورة الكيان، يقود الى تنزيل عملية مواجهته، وبالنتيجة مواجهة قوى التطبيع، في خانة المهام الوطنية المباشرة بالنسبة لكل فصيل من فصائل حركة التحرر العربية، فان الوعي الجزئي بتلك الخطورة يقود بالضرورة الى تنزيل عملية المواجهة في خانة دعم الشعب الفلسطيني والتضامن معه، أكثر من كونه يقوم بمهمة دفاع مباشرة عن الذات. يترتب على ذلك عدم الربط الواعي والعميق بين المشاكل والقضايا الاقتصادية والسياسية الداخلية في هذا البلد او ذاك، ووجود الكيان الصهيوني في قلب المنطقة. وإذا كان ذلك يقود على مستوى الممارسة السياسية العملية الى المبالغة في ضرورة معالجة القضايا المحلية بوصفها أولويات قصوى، فانه يقود أيضا الى تضليل قطاعات جماهيرية واسعة والعبث بوعيها حول حقيقة العدو الصهيوني، وبالنتيجة مواجهة التطبيع والمطبعين. وفي هذا السياق باتت تبرز بعض الاطروحات التي تعبث بالتناقض مع العدو الصهيوني بوصفه تناقضا رئيسا، من خلال ترويج فكرة الاستعداد للعمل والتحالف مع قوى التطبيع الرسمية على المستوى العربي، بحجة انها تقف ضد قوى الإسلام السياسي.
لقد بات التكيف النفسي السياسي مع التطبيع تحديا ماثلا وشاخصا، تتبدى ملامحه في ردود الفعل الشاحبة على كل حدث تطبيع، وفي ترك بعض القوى التي تقاوم في البلدان التي وصل اليها العدو لتلقط شوكها بيديها، وفي تراجع عملية التعبئة والتحريض ضد التطبيع، وفي إطفاء أضواء قاعات الندوات والمحاضرات والمؤتمرات، وفي اخلاء ساحات النضال الجماهيري، وفي كثير من الأحيان المرور من جانبه دون ان يثير الانتباه. ولذلك فان كسر حلقة التكيف تستدعي بالضرورة العودة الواعية الى الميدان بشكل فاعل ومنظم يقطع مع عشوائية الفعل وموسميته، وتنسيق عمليات المواجهة بين القوى التي تقع في بؤرة الحدث التطبيعي أي في البلدان التي قطعت شوطا على هذا المستوى، وبين القوى الأخرى والموجودة في بلدان أخرى، وهذا بدوره يستدعي ترتيبات لابد من القيام بها والاقدام عليها بجرأة. وذلك على قاعدة الوعي العميق ان العدو كالمرض إذا تمكن من التقدم الى موقع والتمركز فيه، فانه سيسقط الموقع المجاور اذا لم يتم صده ومحاصرته منذ البداية.