مقالات و دراسات

الحركة الوطنية الفلسطينية بين الاشتباك مع الواقع والارتباك امام الوقائع

عابد الزريعي

مدير مركز دراسات أرض فلسطين للتنمية والانتماء

مدخل:
يمثل مجيء الذكرى الثالثة والخمسون لانطلاقة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين على بعد أسابيع قليلة عن مجيء الذكرى السادسة والخمسون لانطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة التي وسمتها حركة فتح باسمها، مناسبة هامة للتوقف المدقق امام تجربة الحركة الوطنية الفلسطينية بكل فصائلها، لاسيما وان احتفاء القوى السياسية بأعياد ميلادها يفرض وبالضرورة تنقل البصر والفكر بين لحظتين لحظة الميلاد ولحظة الاحتفاء والاحتفال. ولأن المسافة الفاصلة بين اللحظتين تتجاوز نصف قرن من الزمان، فمن الطبيعي والمنطقي ان تتدفق في النهر ما بينهما مياه كثيرة وغزيرة تكاد تنفي التشابه ما بين لحظة الميلاد ولحظة الاحتفاء. ولأن المصير يتعلق بوهج لحظة الميلاد التي باتت بعيدة في الزمان، فان استعادة تلك اللحظة بمتغيراتها باتت خيارا لابد منه. سنحاول معالجة هذه الفكرة في العناوين الخمسة الاتية:
أولا: الاشتباك القديم مع الواقع
مثل الاشتباك مع الواقع وتحدياته العنوان الجامع لكل البرامج التي صاغتها فصائل حركة التحرر الوطني الفلسطينية المعاصرة. وعلى أرضية هذا الاشتباك كان الاتفاق على تحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني امرا مفروغا منه، والاستناد الى الجماهير المعبأة والمنظمة، والبندقية المستندة الى الفكر الثوري، والمعاداة المطلقة للإمبريالية والصهيونية والقوى الرجعية امرا مفروغا منه ايضا، باستثناءات محدودة فيما يخص حدية المواجهة مع قوى الرجعية والامبريالية. أما إسرائيل فلا مجال لذكرها بدون تطهير اللسان بعد التلفظ، وليس لها من مجال للبقاء او الوجود. وبهذه الروحية كان الاشتباك مع نتائج هزيمة حزيران عام 1967، يشكل امتدادا للاشتباك مع كل ما خلفته النكبة، من اثار سياسية واقتصادية واجتماعية على الشعب الفلسطيني. وبهذه الرؤية والروحية تقدمت الحركة الوطنية الفلسطينية واحتلت موقعها بدون منازع، كطليعة متقدمة لحركة التحرر العربية، كونها تخوض بالسلاح معركة تحرير الأرض، وهي المعركة التي تدور على الجبهة الأهم في ثالوث اهداف حركة التحرر العربية، والتي يترتب عليها تحقيق الهدفين الاخرين، وهما الخروج من التبعية للمركز الامبريالي وتحقيق الوحدة العربية. وبهذه الرؤية والروحية أيضا كانت الحركة الوطنية الفلسطينية تحتل موقعها في صدارة حركات التحرر العالمية، التي كانت تدرك نوعية وطبيعة المعركة الفلسطينية واعبائها، وفي ذات الوقت انها أداة الكسر لركب الوحش الامبريالي، فكانت بذلك محجة لكل ثوار العالم من كل انحاء الكرة الأرضية.
ثانيا: الارتباك الجديد امام الوقائع
الان وبعد أكثر من نصف قرن تقف الحركة الوطنية الفلسطينية وقد تبددت من بين اصابعها اغلب تلك الرؤى والاهداف، لتجد نفسها امام وقائع جديدة ومتعددة، بات الارتباك امامها وفوضى الخيارات عنوانا جامعا أيضا، حيث تسلل الخلاف والاختلاف ليس فقط الى البنية التنظيمية، بل طال هدف تحرير كامل التراب الوطني، والذي بات لدى بعض القوى تحجرا وجمودا وتخلفا عن رؤية الواقع، وطال الكفاح المسلح الذي بات لدى بعض القوى تأدية بالنفس الى التهلكة، وباتت البندقية عنوان أثم يستحق العقاب، بعد الاستعاضة عنها بالمقاومة الشعبية الناعمة، ولم يعد الفكر الثوري حاضرا، ليس نتيجة لانكسار المنبع السوفييتي، ولكن لتحجر في الذهن وتكيف مع قبم الواقع الجديد التي تعتبر الفكر بضاعة فاسدة، والتفكير مهنة من لا مهنة له. كما لم يعد الثالوث المعادي الصهيوني الامبريالي الرجعي عدوا بالمعنى الذي كان لحظة الاشتباك الأولى، وبات كل برنامج للحل يقابله برنامج وخطوات للتعقيد والتقعيد عن المعالجة، ورغم هذه الصورة القاتمة تجد هناك من يكابر ويدعي اننا نمضي على طريق معبد نحو تحقيق الأهداف، ولكن اية اهداف.؟
ثالثا: أوهام الغطاس وأرقام الماء
كانت أكثر اللحظات بؤسا في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية عندما خرج حسين الشيخ ليهنئ الشعب الفلسطيني بالانتصار، بعد عودة التنسيق الأمني، وبدء استلام أموال المقاصة التي قص الاحتلال منها مخصصات الاسرى وعائلات الشهداء، معبرا بذلك عن وهم تم تجرعه واستمرت محاولات تجريعه للشعب الفلسطيني، بان اتفاق أوسلو قد عبد الطريق نحو تحقيق الهدف المرسوم. هذا في الوقت الذي يتحدد فيه مستوى التراجع في مسيرة الحركة الوطنية ليس بالتقدير او بالتحليل وانما بالأرقام التي تكذب الغطاس، فببساطة يمكن متابعة النمو العددي للمستوطنين والمستوطنات حتى نقيس مستوى التراجع، ناهيك عن حلم سنغافورة الشرق الذي بات كابوسا تتواصل فصوله يوم بعد يوم.
رابعا: طريق الخلاص المبتور
وجه اخر للمسألة ان وهما اخر بات يتراكم في الساحة الفلسطينية، يتبدى في محاولة تجريع الشعب الفلسطيني فكرة إمكانية الخروج من مأزق الحركة الوطنية الفلسطينية برضى ومباركة من يسبح بحمد اتفاق أوسلو وافرازاته على ارض الواقع. الامر الذي ترتب عليه حوارات ولقاءات كثيرة ومتعددة. قد يقال انها المحاولة المشروعة. وهو قول لا ينتبه الى ان المدى الزمني الذي استغرقته المحاولة المشروعة ــ دون جدوى ـــ مدى متغير في مضامينه، يترتب عليه الإغراق في الوهم من ناحية وتراكم العقبات من ناحية ثانية، الى حد تعقيد الامل على اية إمكانية للخروج من المأزق. فمن الواضح ان المترتب على مرور الزمن في الحالة الفلسطينية يختلف عن حالة الاستعصاء التاريخية التي تواكب كل عملية تغيير ويتم التعبير عنها بتلك المعادلة” القديم يرفض ان يموت والجديد لم يولد بعد” ويتخذ صيغة: ” فريق أوسلو لا يريد الخروج من الاتفاق.. والمعارضة غير قادرة على طرح بدائل حقيقية وثورية ” للخروج من المأزقان جوهر حالة الاستعصاء القائمة يكمن في الزاوية التي يتم النظر عبرها الى اتفاق أوسلو وكيفية نقضة. من داخله ام من خارجه.؟ وهنا لابد من القول: ان قراءة معمقة لاتفاق أوسلو وكونه في عمقه رؤية أيديولوجية أكثر من كونه اتفاقا سياسيا، تؤكد ان الغاء مثل هذا الاتفاق وبالنتيجة مترتباته لا يمكن ان تتم الا من خارجه، بما يعنيه ذلك من شق عصا الطاعة على كل البنى المتولدة عنه. بينما الاعتقاد بان ذلك يمكن ان يتم من داخله، ستكون نتيجته كمن يدخل رأسه عنوة في إطار اضيق منها ليستعصي عليه اخراج رأسه مرة أخرى، الا بتهشيم واحد من الاثنين، وفي الحالتين لن تكون النتيجة على ما يرام. فالعنوانان الأبرز في المعالجات المطروحة هما انهاء الانقسام ووقف التنسيق الأمني، واجراء الانتخابات في الضفة والقطاع والقدس ـــ بموافقة الاحتلال ـــ وفي هذا السياق يتم طرح فكرة اصلاح منظمة التحرير، بديهي لا أحد يرغب ويريد استمرار حالة الانقسام القائمة، ولا رؤية أجهزة امن فلسطينية تؤدي خدمات امنية لصالح الاحتلال. ولا منظمة التحرير العتيدة مهلهلة ومتداعية. ولكن كل أحد يمتلك مشروعية السؤال: الا يعني كل ذلك وفي السياق الذي تتم به محاولات المعالجة، خروج من باب أوسلو للدخول من نافذته. سواء تم الامر بحكمة الأمناء العامين او نتيجة حوارات في أي عاصمة كانت.؟
خامسا: الاشتباك من جديد
الحقيقة التي غالبا ما يتم الالتفاف من حولها ان جدارة حركة التحرر الوطنية الفلسطينية، ترتبط بشكل قطعي بالاستمرار في تمسكها وادارتها للمنطلقات، التي خاضت على أساسها اشتباكها الأول. وهي مسألة باتت ترتبط بحقيقتين دامغتين، تتعلق الأولى بطبيعة مشروع العدو الذي تواجهه، بينما تتعلق الثانية بما استطاع هذا العدو إنجازه من تمدد وتموضع جديد وعميق في الساحة العربية، أي في المواقع الخلفية لها. هاتان الحقيقتان تجعلان من كل محاولة للخروج من المأزق الذي انتجه اتفاق أوسلو، بالبحث عن صيغة للتوافق مع الفريق الذي قاد اليه والمتمسك به، فتحا للباب امام مزيد من تراكم الخسائر، بما يجعل من إمكانية المعالجة والتعويض مع مرور الزمن مسألة متفاقمة ومتراكمة بحيث تصعب معالجتها. لذلك ليس امام الحركة الوطنية الفلسطيني لكي تستعيد جدارتها الا ان تشق مسارا بديلا للمسار السياسي الذي أسس لاتفاق أوسلو المستمر على مدى سبعة وعشرين عاما في مراكمة الخسائر بشكل مضطرد. بما يفرضه ذلك من حتمية إعادة بناء الحركة الوطنية وتجديد المشروع الوطني الفلسطيني كمدخل اجباري لتجديد التمسك بالأهداف الوطنية التاريخية وتطوير النضال والمقاومة ضد الاحتلال، وإعادة الدور الذي لعبه الميثاق الوطني في توحيد الشعب وبلورة هويته، وتأكيد رؤيته لدوره في التاريخ. وبمعنى ادق الاشتباك من جديد مع الواقع بذات العناوين التي تم بها الاشتباك الأول، يضاف اليها مضامين جديدة على ضوء المتغيرات التي طالت الواقع وما افرزته من تحديات غير مسبوقة.
خاتمة: هل نريد.؟ هل نستطيع.؟ هل نجرؤ.؟؟

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق