مقالات و دراسات

العلاقة بين اليسار والليبرالية في ظل اشتراطات مرحلة التحرر الوطني

عابد الزريعي

مدير مركز دراسات أرض فلسطين للتنمية والانتماء

يستدعي تناول موضوع العلاقة بين التيارات السياسية والفكرية تحديدا لتلك التيارات، وللمرحلة التاريخية التي تتواجد فيها بكل اشتراطاتها. دون ذلك يبقى طرح موضوع العلاقة مبهما وغامضا. هذا المقال سيتناول العلاقة بين اليسار والليبرالية في الساحة العربية، وفي ظل جملة الشروط والتحديات التي تطرحها مرحلة التحرر الوطني العربي الجارية تحديدا.
أولا: اليساريون القدامى
نشاء مصطلح اليسار كصيغة تقاطب مكاني ابان الثورة الفرنسية، ثم تحول الى تيار فكري وسياسي يسعى لتغيير المجتمع على قاعدة المساواة والعدالة. وتمثل في عديد التنظيمات التي تلتقي وتختلف ضمن خارطة واسعة من الممارسات السياسية والمرجعيات النظرية والأيديولوجية. ومنها الشيوعية والاشتراكية ويسار الوسط (الديموقراطية الاجتماعية)، واليسار الراديكالي وغير ذلك. وبالنسبة لليسار العربي فقد تمثل في جملة القوى الاشتراكية والقومية والماركسية التي نشأت أواسط عشرينيات القرن الماضي في خضم النضال ضد الاستعمار، بكل ما ترافق مع ذلك من قضايا سياسية واجتماعية واقتصادية. وباتت تتجلى ملامحه في اللحظة الراهنة في مجموعة القوى السياسية المتبقية من الأحزاب الشيوعية العربية، والقوى القومية والعروبية، واليسار القومي الذي تشكلت ملامحه بعد عام 1967، وذلك ارتباطا بالتحولات الفكرية التي شهدتها حركة القوميين العربي قبل ذلك بعقد من الزمن، وكذلك ما انفلت من هذه الأطر من افراد باتوا يعملوا كمستقلين وخارج الأطر الحزبية. ويكاد يكون الخيط الناظم بين مختلف هذه القوى تمييزها لنفسها عن قوى أخرى بكونها ليست يمينة او رجعية، وربطها بين قضية التحرر الوطني وقضايا العدالة الاجتماعية والاستقلال الاقتصادي. وعلى طول مسار تلك القوى نشبت صراعات، وتشكلت تحالفات وبنيت جبهات فيما بينها، تمايزت من حيث عدد الأطراف المشاركة، والقدرة على الاستمرار والفاعلية.
ثانيا: اللبراليون الجدد:
مرت الليبرالية في تطورها بمحطات بثلاثة رئيسة، أولها الليبرالية الكلاسيكية وهي بداية سيرتها التي قامت على المناداة بحرية الفرد. ثم الليبرالية الجديدة التي برزت في ثمانينات وتسعينات القرن العشرين، وترافقت مع ظهور المحافظين الجدد، وذلك بالتوافق مع نهاية الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفييتي، ثم كانت الليبرالية الاجتماعية التي نادت بإعادة تفعيل دور الدولة في الاقتصاد، من اجل الحفاظ على الرأسمالية واقتصاد السوق، بعد فشل سياسات الليبرالية (الجديدة) وما ترتب عليه من أزمات. وقد تشكلت الليبرالية العربية في صيغتها الراهنة في ظل طغيان الموجة الليبرالية الجديدة، وانتظم في صفوفها من انسل من صفوف اليسار، مثل أحزاب الديمقراطية الاجتماعية ذات الأصول التروتسكية وغيرهم. هذا الى جانب حاملي الفكرة السابقين. وقد احتشد الأغلبية العظمى من هؤلاء في منظمات المجتمع المدني، كما شكلوا أحزابا سياسية خاصة بهم. وفي هذا السياق تأسس الاتحاد الليبرالي العربي في القاهرة عام 2008م تحت اسم “شبكة الليبراليين العرب”. وفي عام 2011 صار اسمه «التحالف العربي للحرية والديمقراطية”، الذي شارك في الليبرالية الدولية. وفي عام 2016م تم تغيير الاسم ليصبح “الاتحاد الليبرالي العربي”. الذي ضم آنذاك 13 حزبا من 8 دول عربية. وقد أعلن التحالف الالتزام” بمبادئ الحرية والمسؤولية والتعددية والتسامح واقتصاد السوق والدولة المدنية والتأكيد على فصل الدين عن السياسة. ودعم الإصلاحات الليبرالية لضمان حياة أفضل في ظل الحرية والرخاء في العالم العربي”.
ثالث: شرط التاريخ وتخومه:
ليست التخوم الفاصلة والمحددة للعلاقة بين التيارات السياسية، الا انعكاسا لاشتراطات مرحلة تاريخية محددة. تتمثل في حالتنا المتعينة في مرحلة التحرر الوطني التي تنتظم في سياقها شعارات حركة التحرر العربية. (التحرير والوحدة والخروج من التبعية). بما ينسل عنها من شعارات واهداف تتعلق بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية. وتتلخص القاعدة الضابطة لكل هذه الاشتراطات في توفر الإرادة الجماعية الصلبة، التي تستمد صلابتها من تجذرها القومي والطبقي والتنظيمي الذي تقتضيه أية مرحلة تحرر وطني في التاريخ. وهي مسألة لا يمكن فصلها في الحالة العربية عن وضوح الهوية القومية ببعدها الديني والفكري والحضاري، وعن الفعل النضالي المتعين بأدواته التنظيمية وقواه الفاعلة، ارتباطا بالقضية الفلسطينية ومسألة التطبيع مع الكيان الصهيوني. ان المعالجة الخاطئة لأي من هذه القضايا ستقود بالضرورة الى الاصطدام مع الغالبية الشعبية التي تشكل اللحم الحي للإرادة الجماعية، وبالنتيجة بناء مواقف سياسية وفكرية متناقضة مع اشتراطات المرحلة التاريخية. على ضوء ذلك فان مستقبل العلاقة بين اليسار والليبرالية العربية ليس رهين الإرادة الذاتية، بقدر ما هو افراز موضوعي يتعلق بمدى قرب او بعد أي منهما من تلك الاشتراطات، خاصة وان الطرف الأكثر تعبيرا في مواقفه عن تلك الاشتراطات، يصبح هو المعني بضبط نسق تلك العلاقة وليس العكس. وفي سياق هذا التصور تبرز عديد القضايا التي تحتاج الى وضوح موقف وهي:
1 ـــ القضية الفلسطينية: وهي مسألة ذات شقين يتبدى الأول في الموقف من نضال الشعب الفلسطيني، ادواته وقواه والياته ومنتهاه. بينما يتبدى الثاني في الموقف من العدو الصهيوني ومستوى التناقض معه. وتتجلى جدلية العلاقة بين المسألتين في ان كل تهاون في جانب يقود الى تهاون في الجانب الاخر، فالتهاون في دعم نضال الشعب الفلسطيني، يترتب عليه الاستعداد للتطبيع مع الكيان الصهيوني بغض النظر ان كان التطبيع اجلا ام عاجلا، والاستعداد للتطبيع يقود الى التهاون في دعم نضال الشعب الفلسطيني، بما يترتب على كل ذلك من تناقض مع أوسع كتلة جماهيرية تشكل القضية الفلسطينية سدى ضميرها ووجدانها العميق، بالرغم من كل المحاولات التي تبذلها القوى المعادية لتزييف هذه الحقيقة.
2 ــ الديمقراطية والعدالة الاجتماعية: ان رفع شعار تحقيق الديمقراطية على اهميته ليس شعارا مجردا، ذلك ان كل منجز ديمقراطي يبقى ناقصا ومهددا، مالم يتم تسويره بالعدالة الاجتماعية، التي توفر القاعدة الجماهيرية الاوسع القادرة عن الدفاع عن منجزها الديمقراطي وتطويره. بما يعنيه لك من ان شجرة الديمقراطية تنمو على قاعدة المشاركة الشعبية والعدالة الاجتماعية، وليس في ارض بور. وفي هذا السياق تبرز الحقوق الفردية عندما تطرح على قاعدة عدم التناقض مع الهوية ببعدها الجمعي والجماعي، كأليات تحفيز وتعزيز المشاركة الشعبية وتعزيز الإرادة الجماعية وليس تفتيتا لها.
3 ــ الموقف من الدين: ان الصراع مع قوى الاسلام السياسي يجب ان لا يتحول الى استهداف للدين تصريحا او تلميحا اعلانا او استبطانا. بما يترتب على ذلك من دخول في مواجهات عبثية ومعارك مفتعلة، لا يستفيد منها الا تلك القوى في تحشيد الناس من حولها. ان الصراع الحقيقي والمنتج يجب ان يدور حول البرامج ومدى الإيفاء باشتراطات مرحلة التحرر الوطني وتلبية احتياجات الناس الاقتصادية والاجتماعية.
4 ــ التحرر من التبعية: ان الديمقراطية لا يمكن تكون رهانا على قوى خارجية واستجلابا لتدخل قوى استعمارية بحجة القضاء على استبداد داخلي. بما يعنيه ذلك من خطأ وخطيئة التعامل مع القوى الخارجية والاستقواء بها من اجل احداث تغييرات داخلية. لأنها لن تقوم بهذا الدور الا لصالحها، ومن اجل تثبيت وحماية مصالحها التي تتصادم بالضرورة مع اهداف وتطلعات الشعوب العربية.
رابعا: احتمالات المستقبل التحالف ام المواجهة؟
تشكل القضايا المشار اليها ضابطا مستقبليا لنوعية العلاقة التي يمكن ان تقوم بين الطرفين، وذلك ارتباطا بالمسافة التي يقفها كل منهما من تلك القضايا. لكن ذلك يحتاج الى قوة ضابطة وموجهة، ومن المنطقي ان يكون اليسار هو المرشح لذلك، أولا بسبب تشكله التاريخي الذي ارتبط بالمرحلة التاريخية، وثانيا لان الليبرالية العربية في صيغتها المعاصرة ولدت في سياق نقيض لأهداف المرحلة، نتيجة لارتباطها بالموجة الليبرالية الجديدة. وهذا لا ينفي ان أي من الطرفين لا يشكل كتلة واحدة، حيث تتباين المواقف وتختلف حول هذه القضية او تلك. وارتباطا بهذه المسألة تبرز حقيقتين هما:
1 ــ ـــ أن قدرة اليسار على أداء الدور المرهون به يبقى رهين مراجعات شاملة. خاصة ان اغلب ان لم يكن كل تلك القوى تعاني حالة تراجع وتشرذم وارتباك الى حد ان بعض التحليلات تخرجها من ساحة الفعل المؤثر في الواقع السياسي الجاري. وقد وصلت حالة الارتباك الى حد اتخاذ بعض اليسار العربي منحى ليبراليّ فج، خاصة في ظل نهوض الحركات الإسلامية، وحصر الصراع مع الغرب في الجانب السياسي دون الصراع الحضاري بما يعنيه من قبول بقيمه.
2 ــ ان منصات إعلامية عربية مملوكة لقوى رجعية واستبدادية ومعادية لحقوق الانسان، فتحت أبوابها لكثير من الليبراليين ــ واغلقتها على غيرهم ــ الذين استغلوا ذلك في الهجوم على كل من لا يقول بقولهم في الساحة العربية. فرموا القومي بالشوفينية واليساري الماركسي بالستالينية. ولم يسلم أي رمز من رموز الأمة من سهامهم. كما دأبوا على بث خطاب تفكيكي للمجتمعات وللهويات.
هاتان الحقيقتان في اشتغالهما يقودان الى علاقة مرتبكة ومضطربة، ذلك ان الطرف اليساري وبحكم واقعه المتعين غير قادر ان يشكل قوة ضبط حقيقية، تفرض قطيعة ام اتصالا ولأهداف واضحة ومحددة. اما الليبرالي فيعبر في كل لحظة عن اصراره في جنى ثمار اللحظة، وغير مهتم بالجماهير الشعبية على مستوى قيمها، وبالنتيجة على مستوى معيشتها، ومستوى طريقة إدارة حياتها حتى لو ادعى غير ذلك، باستثناءات قليلة من بين صفوفه. ذلك يبقي المجال مفتوحا لتقدم طرف ثالث، بما يترتب على ذلك من بقاء الباب مواربا بين الطرفين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق