مقالات و دراسات

منجزات معركة سيف القدس على ضوء محددات قياس نتائج الحرب غير المتماثلة

عابد الزريعي

مدير مركز دراسات ارض فلسطين للتنمية والانتماء

تخوض حركات التحرر الوطني معاركها، في ظل ميل موازين القوى لصالح المستعمر. وينصب نضالها على تغيير هذه الموازين لصالحها، ودفع المستعمر الى الاستنتاج بان الخسائر التي تلحق به، أكثر بكثير من الأرباح التي يجنيها من العملية الاستعمارية. لذلك فان تقييم نتائج المعارك التي تخوضها حركات التحرر على طريق الوصول الى هذه النتيجة، لا يمكن ان يستند الى المقياس الكمي المجرد القائم على حجم الخسائر المادية في البشر والسلاح. وهو المقياس الذي يعمل العدو دائما على تعظيمه، بشن حرب إبادة ضد المدنيين بشكل خاص، لثني حركة التحرر الوطني عن المضي في طريقها. انما يتلخص المعيار الرئيس في تقييم هذه المعركة او تلك، فيما أفرزته وغيرته من معادلات قائمة، بكل ما يترتب عليها من تأثيرات لاحقة. ومن اجل تحديد تلك المعادلات، فان الامر يحتاج الى قاعدة ضبط، يتم على أساسها تحديد معالم التغيير سواء كان بالاتجاه السلبي او الإيجابي. ويتلخص اول محددات القاعدة في ان عدم التماثل في القوى، يترتب عليه عدم تماثل في الاهداف، التي تأخذ طابعا عسكريا ردعيا لدى المستعمر، بينما تتبدى كأهداف سياسية بالدرجة الاولى لدى حركة التحرر. وعلى ضوء هذا المحدد يتم فحص النتائج بعد انقشاع غبار المعركة. وإذا كان عدم هزيمة القوة الأضعف في الحرب غير المتماثلة، يشكل أحد علامات انتصارها، فان ذلك يشير الى ان علامة الانتصار الناجزة، تتمثل في تمكن حركة التحرر من تحقيق هدفين مركبين هما: تعزيز وحدتها وتوسيع قاعدتها الجماهيرية. وبالمقابل خلق التناقض في صفوف العدو. وبينه وبين حلفاءه من ناحية. وتعزيز شرعيتها ومشروعيتها الداخلية والخارجية. وبالمقابل التشكيك في شرعية ومشروعية العدو من ناحية ثانية. وعلى ضوء هذا المحدد يمكن ان نرصد ما حققته المقاومة الفلسطينية المسلحة من خوضها لمعركة سيف القدس على المستوى الفلسطيني تحديدا. والذي يتبدى في خمسة نتائج اساسية تتمثل فيما يلي:
أولا: ـــ تجسيد الوحدة النضالية للشعب الفلسطيني:
اتسمت الوحدة التي تجسدت بين ابناء الشعب الفلسطيني على المستويين الجغرافي والديمغرافي، في مسار معركة سيف القدس، بطابعها النضالي التشاركي العملي. فقد شملت العملية النضالية جغرافيا، كل مساحة فلسطين التاريخية. وديمغرافيا كل أبناء الشعب الفلسطيني، في الوطن التاريخي والشتات. وقد تجسدت الوحدة عبر ترسيمين رمزيين، نهض الاول على قاعدة المساندة والمسؤولية النضالية بين الجزء والكل الفلسطيني. وتبدى ذلك في زحف جماهير فلسطين المحتلة عام 1948 للدفاع عن القدس، وتبلور على أساس أن المقاومة المسلحة في غزة قررت الرد الواعي على اعتداءات الاحتلال في القدس والضفة الغربية، والاستجابة لنداء المقدسيين لقيادة المقاومة في غزة. الأمر الذي يعني أن مهمة المقاومة في غزة ودوافع استخدام سلاحها لم تعد مقصورة على قطاع غزة، كما حصل في المواجهات السابقة، وهي المعادلة التي بذل الاحتلال جهدا دؤوبا لإدامتها. وقد جاء الاضراب العام الذي شمل الأراضي الفلسطينية جميعها، بمثابة التتويج للترسيم الرمزي الاول للوحدة النضالية الميدانية، بعد أن كان الاحتلال يقسّم فلسطين إلى وحدات ويستفرد بكل منها على حدة. أما الترسيم الرمزي الثاني فقد تكفل به الاحتلال الصهيوني الذي اثبت بطريقة تعامله مع الهبة الشعبية في فلسطين المحتلة عام 1948، أنه يتعامل مع شعب فلسطيني واحد وقضية واحدة. وذلك بمواجهته للهبة بذات أدوات القمع المستخدمة في الضفة الغربية، بإقامة الحواجز وإغلاق البلدات العربية واستباحتها بقوات “حرس الحدود”، وبالاعتقالات، وافساح المجال للمليشيات اليهودية المسلحة لتمارس القمع بحماية الشرطة. بصورة منسوخة عما يقوم به المستوطنون في الضفة تحت حماية الجيش.
ثانيا: تعزيز الاشكال والخبرات النضالية:
اعادت المعركة الاعتبار للكفاح المسلح كشكل نضالي رئيس يتناسب وحالة الاستعمار الاستيطاني التي تعرضت لها فلسطين. والمتناغم مع الانتفاض الشعبي وكل اشكال العمل الجماهيري النضالي. حسب الواقع الموضوعي لكل ساحة من الساحات، وقدراتها وامكاناتها الذاتية. كما كشفت معركة سيف القدس عن تحسن وتطور الخبرة التقنية والتكتيكية لقدرات المقاومة العسكرية. مقارنة بالمواجهات السابقة سنة 2008، و2012، و2014، وقد عدد المعهد القومي الإسرائيلي للدراسات الأمنية التابع لجامعة تل أبيب ملامح هذا التطور، في تحسن المستوى التقني ومستوى دقة إصابة الأهداف والتأثير للصواريخ الفلسطينية. وكذلك في مستوى القيادة والسيطرة وفي مستوى التنسيق. وقد تبدى ذلك التطور في تعرض إسرائيل لخسائر لم تتعود عليها في الحروب السابقة ضد غزة. كما كشفت المعركة أيضا عن مدى ما تتمتع به المقاومة من الإدارة الجيدة للصراع، وقدراتها الاستخبارية، وقراءتها لما يفكر فيه العدو ويخطط له، وتغلبها على ظروف الحصار المفروض عليها إسرائيليا ومصريا. بما يعنيه ذلك انها تستفيد من اوقات عدم المواجهة والاشتباك في العمل الدائم من اجل تغيير موازين القوى لصالحها.
ثالثا: تعزيز شرعية قوى المقاومة وطنيا:
لقد شكل دخول سلاح المقاومة في غزة كإجراء حماية ودعم، على خط التأثير على الاحتلال في القدس، تحولا استراتيجيا، ومسارا نضاليا ووحدويا جديدا، ووضع الساحة الفلسطينية على أبواب تغيير بنيوي يسمح ببناء جبهة وطنية متحدة. وقد تعززت هذه الشرعية على مستوى الموقف والممارسة والفعل النضالي. بشكل موازي لغياب السلطة الفلسطينية، التي تكرست صورتها في الوعي الفلسطيني العام كأداة طيّعة لدى الاحتلال، لقمع أيّ مقاومة فعلية ضدّه. كما تعزز الوعي ــ خاصة في الضفة الغربية ــ بضرورة وامكانية تجاوزها، وأنها ليست قدرا محتوما للحيلولة دون الاشتباك مع الاحتلال. ان تعزيز شرعية المقاومة في كافة أماكن التواجد الفلسطيني، يشير إلى فشل سياسة الاحتواء التي مورست خلال العقد الأخير، سواء من قوات الاحتلال نفسها او من قيادات فلسطينية غادرت نحو مربع التسويات المعبر عن عجزها عن تحمل متطلبات المقاومة. سواء في فلسطين المحتلة عام 1948 او في الضفة الغربية حيث مازالت أوهام التسوية تعيش في عقل قيادات السلطة الفلسطينية. وكون ذلك يرتبط في جوهره بمواقع القوى على السلم التراتبي للحركة الوطنية الفلسطينية، من حيث القوة والضعف والتقدم والتراجع، فقد كرست المقاومة الفلسطينية المسلحة شرعيتها كأداة خلاص للشعب الفلسطيني، وذلك بعد فترة من التشكيك والادانة الضمنية التي انخرطت فيها قوى وأطراف عديدة. الامر الذي يفتح الباب على تقدم قوى جديدة وتراجع اخرى، الامر الذي سيترك بصماته على الوضع الفلسطيني الداخلي على مسار الصراع مع الاحتلال.

رابعا: تعزيز شرعية قوى المقاومة قوميا:
تجسدت خلال معركة سيف القدس الوحدة النضالية التشاركية بين الجماهير العربية، على قاعدة أعادة تصويب بوصلة الوعي السياسي والأخلاقي والحضاري لدى شعوب المنطقة نحو فلسطين. وبذلك رفعت المقاومة التضامن العربي ضد ” إسرائيل ” من تحت الأنقاض. وفي هذا المستوى تمت عملية تلاحم بين الشتات الفلسطيني وجماهير الامة العربية، خاصة في الأردن ولبنان حيث تطور الالتحام الى زحف نحو الحدود، وتمكن بعضهم من اجتيازها وحوكم في محاكم الاحتلال في فلسطين المحتلة عام 48 بينما استشهد اخرون على الاسلاك وهم يحاولون الاجتياز. بكل ما يعنيه ذلك من معاني ورموز. كما قادت الى حصار أنظمة التطبيع العربي ووضعها في موقع دفاعي بعد اندفاعتها القوية خلال العام المنصرم. وشحنت ارادة القوى المقاومة للتطبيع التي عادت الى الميدان بعزيمة واصرار على اسقاط التطبيع والمطبعين في هذه البلدان.
خامسا: تعرية وكشف الاحتلال دوليا:
لقد قادت الهبة بأبعادها الشعبية والعسكرية المسلحة الى فضح الاحتلال وكشف حقيقته الإرهابية العنصرية. الامر الذي ترتب عليه جملة إنجازات تلخصت أولا في استعادة التفاف القوى الدولية الشعبية المناهضة. إضافة الى التضامن الذي ابداه عدد من مشاهير العالم والمنظمات الغربية المعنية بالإعلام وحقوق الانسان مع فلسطين وكذلك في أوساط الحزب الديموقراطي الحاكم في واشنطن، ولدى الرأي العام الأمريكي بشكل عام. وثانيا في تعرية القوى الدولية الداعمة للكيان. وثالثا في إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية ووضعها على طاولة صناع القرار في دول الإقليم والعالم.
خاتمة:
هذه المنجزات الخمسة تشكل الوجه الاول لمنجزات معركة سيف القدس المتعلقة بالجانب الفلسطيني، اما الوجه الاخر فيتعلق بما احدثته المعركة من جروح عميقة في جبهة العدو وهو موضوع يحتاج الى معالجة منفصلة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق