مقالات و دراسات

مهامّ حركة التحرّر العربية في ظلّ التموضع الصهيوني الجديد

عابد الزريعي
مدير مركز دراسات أرض فلسطين للتنمية والانتماء

جاء “اتفاقُ ابراهام” تتويجًا لأحداثِ تطبيعٍ متتاليةٍ بين دولة الإمارات و”إسرائيل،” وذلك بالتوازي مع أحداثٍ مشابهةٍ جرَت في غير بلدٍ عربيّ. وهذا التطوّر النوعيّ، من مسار الأحداث المتفرّقة إلى مسار الاتفاق المرسَّم بين “إسرائيل” وإحدى دول المحيط العربيّ (قياسًا إلى فلسطين كمنطقة قلب)، يؤذِّن بانتقال المشروع الصهيونيّ إلى مرحلةٍ جديدةٍ من التموضع، تترتّب عليها تحدّياتٌ ومهامُّ جديدةٌ تنتصب أمام حركة التحرّر العربيّة. والمقال هنا محاولةٌ لتناول هذا الموضوع، الذي يحتاج إلى مزيدٍ من البحث والتعمّق.

أوّلًا: اتفاق ابراهام ومفهومُ التموضع الصهيونيّ الجديد

يشكّل اتفاقُ ابراهام لحظةَ تحوّلٍ نوعيّةً لأحداثٍ تطبيعيّةٍ متعدّدةٍ جرت على مدى سنوات، وشملتْ مختلفَ مناحي الحياة في المحيط العربيّ. وقد مثّلتْ دولةُ الإمارات الحالةَ الأبرزَ في سريان تلك الأحداث، التي راحت تتراكم بشكلٍ متسارعٍ ومتواترٍ حتى وصلتْ إلى كيفيّةٍ جديدةٍ، صيغتُها الاتفاقُ المذكور.

هذا الاتفاق يندرج في سياق تموضعٍ صهيونيٍّ جديد في الإقليم العربيّ:

– أمّا التموضع الأوّل، فقد جرى في أرض فلسطين على صيغة جمع شتات الديمغرافيا اليهوديّة من مختلف بلدان العالم، وتوطينِها في الجغرافيا الفلسطينيّة، قلبِ الوطن العربيّ. وقد استمرّ التراكمُ الكمّيُّ الاستيطانيّ، المترافقُ مع تنظيرٍ إيديولوجيٍّ مكثّف، والمستنِدُ إلى رعايةٍ وحضورٍ استعماريّيْن، من العام 1882، تاريخِ إقامة أوّل مستوطنةٍ في فلسطين، إلى العام 1948، الذي شهد تحوّلَ ذلك التراكم الكمّيّ إلى حالةٍ كيفيّةٍ ونوعيّةٍ جديدة اتخذتْ شكلَ “الدولة.”

– أمّا التموضع في صيغته الثانية، فيأتي كعمليّة تركيزٍ لصورة الحالة الكيفيّة الناتجة من التموضع الأوّل، “إسرائيل،” في وعي ديمغرافيا المحيط العربيّ، على طريق الهيمنة على جغرافيّته. وتبدّت ملامحُ هذه العمليّة في تكثيف تصدير “صورة إسرائيل،” السياسيّةِ والاقتصاديّةِ والعلميّة، وفي الترويج لإنجازاتها وقدراتها و”التغيّر الإيجابيّ” الذي ستُحْدثه في منطقة المحيط، وفي ظلّ تنظير طائفيّ، ورعايةٍ وإدارةٍ أمريكيّتيْن.

لذلك من المهمّ اعتبارُ أشكال التطبيع الجارية بدايةَ تراكمٍ كمّيٍّ جديدٍ على طريق التحوّل إلى كيفيّةٍ جديدة، عنوانُها: تحوّلُ “إسرائيل إلى كيفيّةٍ جديدةٍ عنوانُها الإمبرياليّة الإقليميّة.

ثانيًا: التموضع الصهيونيّ الجديد وتظهير المهامّ الاستراتيجيّة لحركة التحرّر العربيّة

يشتغل التموضعُ الصهيونيُّ الجديد على تكريس بقاء “إسرائيل” في الجغرافيا الفلسطينيّة، وعلى تفتيت الإقليم العربيّ وتعميقِ تبعيّته للمركز الإمبرياليّ، بما يَضْمن الهيمنةَ الإسرائيليّةَ على المحيط العربيّ. وبهذا الاشتغال الفجّ نجده يعيد تظهيرَ المهامّ الاستراتيجيّة لحركة التحرّر العربيّة، في وصفها العناوينَ النقيضةَ لِما يريد أن يحقّقَه.

والمهامّ الاستراتيجيّة الثلاث لحركة التحرّر العربيّة – – وأعني تحريرَ الأرض، وإلغاءَ التجزئة، والخروجَ من التبعيّة – – هي مهامُّ متلازمة، يشكّل التحريرُ حلقتَها المركزيّةَ الضامنةَ للتحرّك في اتجاه المهمّتين الأخرييْن، بينما يقود التخلّي عن مهمّة التحرير إلى الانكفاء الحتميّ عن إنجازهما. كما أنّ طبيعة هذه المهامّ تَفرض على حركة التحرّر العربيّة أن تكون في حالة تصادمٍ مباشرٍ وشاملٍ مع القوى الإمبرياليّة وأدواتها الوظيفيّة، أي الصهيونيّة والرجعيّة، وبكلّ الأشكال والأدوات النضاليّة الممكنة.

لقد شهدت السنواتُ الأخيرةُ نوعًا من الانفصال بين هذه المهامّ الثلاث، خصوصًا في ظلّ التحدّيات التي تواجه كلَّ فصيلٍ على المستوى القطْريّ. وأدّى ذلك الى الاعتقاد بإمكانيّة إنجاز أيٍّ من هذه المهامّ في معزلٍ عن الأخرى. وإنّ إعادةَ انتظام العلاقة بين المهامّ الثلاث، كنتيجةٍ مباشرةٍ لتحدّي التموضع الصهيونيّ في الساحة العربيّة، سيؤدّي بدوره إلى إعادة ترتيب المسؤوليّات، وإلى قراءة هذه المهامّ على أرضيّةٍ تقول إنّ منعَ التموضع الصهيونيّ الجديد بات لصيقَ الارتباط بمعركة التحرير من أجل إلغاء نتائج التموضع الأوّليّ. وإذا كانت معركةُ التحرير تدور موضوعيًّا في جغرافية القلب في فلسطين، وتندرج ضمن المهامّ الملقاةِ على عاتق الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة، فإنّ إسنادَ هذه المعركة من قِبل فصائل حركة التحرّر العربيّة بات يَفرض خوضَ المواجهة في الخطوط الخلفيّة في جغرافية المحيط العربيّ من أجل محاصرة التموضع الصهيونيّ الجديد ومنعِه.

ثالثًا: المهامّ الرئيسة لحركة التحرر العربيّة

إنّ إعادةَ تظهير تلازم المهامّ الاستراتيجيّة لحركة التحرّر العربيّة يَفرض، بدوره، مجموعةً من المهامّ الرئيسة. وتتبدّى هذه المهامّ في ما يأتي:

3-1: المهامّ الرئيسة للحركة الوطنيّة الفلسطينيّة. طرأتْ على هذه الحركة مجموعةٌ من الظواهر الناجمة عن اتفاق أوسلو، وأبرزُها:

– تهميشُ منظّمة التحرير لصالح السلطة الفلسطينيّة، التي تنحصر تمثيليّتُها في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة. وقد أدّى ذلك الى تهميش الشتات الفلسطينيّ، وتهميش الجماهير الفلسطينيّة في الأراضي المحتلّة عام 1948، وإلى عزلِها عن الجماهير الفلسطينيّة في الضفّة والقطاع.

– تعمّقُ ظاهرة الانقسام على مختلف المستويات.

– الإغراقُ في العلاقة مع منظّمات العولمة الماليّة وصناديقِ الدول المانحة.

– تسلّلُ الخطاب الليبراليّ المفتقِر إلى أيّ بُعدٍ تحرّريّ.

– تداولُ خطاب التطبيع نتيجةً للسلوك السياسيّ للسلطة الفلسطينيّة وأجهزتها. وقد ترتّب على ذلك تمييعٌ لعمليّة الصراع مع العدوّ، ونقلُه إلى مستوى الخلاف مع “الآخر.”

– تكريسُ ظاهرة “الفصيل-المشروع” الذي يُستخدم أداةً لإضفاء المشروعيّة على أيّ قرارٍ سياسيٍّ يجري اتّخاذُه، في مقابل تنعُّم قيادته بالامتيازات بحكم موقعها في المؤسّسات القياديّة الفلسطينيّة.

– نموّ ظاهرة الانتماءات الجهويّة والعشائريّة والعائليّة.

إنّ الخروج من هذه المظاهر وغيرِها يمثّل شرطًا لازمًا لتوفير القدرة على التصدّي لمهامّ المرحلة بكلّ تعقيداتها. وذلك يستدعي العملَ على مستوييْن:

أ – المستوى الفكريّ والسياسيّ. وهذا يشمل:

– إعادةَ بناء المشروع الوطنيّ، برنامجًا وأدواتٍ، بما يكفل تجديدَ التمسّك بالأهداف الوطنيّة التاريخيّة بديلًا لتنازلات أوسلو.

– تعزيز هويّة القضيّة الفلسطينيّة الرئيسة في وصفها حركةَ تحرّرٍ وطنيّ.

– إعادةَ الدور الذي لعبه “الميثاقُ الوطنيّ الفلسطينيّ” في توحيد الشعب وبلورةِ هويّته وتأكيدِ رؤيته إلى دوره في التاريخ.

– إعطاءَ المحتوى التربويّ في المدارس والأوساط الشبابيّة بعدًا وطنيًّا تقدّميًّا بعيدًا عن الأفكار الليبراليّة وإفرازاتِها الآخذةِ في التسلّل إلى المناهج التعليميّة.

– العملَ المكثّف لمواجهة ثقافة التطبيع.

– تدعيمَ ثقافة التحرّر الوطنيّ على قاعدة إعادة تجسير العلاقة بين العامل الوطنيّ الفلسطينيّ والعامل القوميّ العربيّ.

ب ــ المستوى التنظيميّ والإداريّ. وهذا يشمل:

– على المستوى العامّ: إعادةَ بناء الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة. ويتمثّل ذلك في بناء منظّمة التحرير الفلسطينيّة، كأداةٍ جامعةٍ ومنظِّمةٍ للمشروع الوطنيّ الفلسطينيّ؛ وفي تحديد الأسس الضابطة لتمثيل أيّ فصيلٍ فلسطينيّ في هيئات المنظّمة، التي يجب أن تستند إلى أوسع مشاركةٍ ديمقراطيّةٍ شعبيّةٍ مقاومةٍ للاحتلال، ومعبِّرةٍ عن الهويّة الوطنيّة على المستوى المجتمعيّ.

– على المستوى الخاصّ: بدء توجّه فصائل العمل الوطنيّ الفلسطينيّ نحو إعادة بناء ذاتها على أسس ديمقراطيّة، وتجديدِ أطرها وقياداتها، ووضعِ الآليّات القادرة على إدارة الشعب الفلسطينيّ (في ظلّ حالة الشتات) في سياقٍ حياتيٍّ ونضاليٍّ فاعل.

3-2: المهامّ الرئيسة لحركة التحرّر العربيّة. وهي تتلخّص في مستوييْن:

أ – على المستوى الفكريّ:

– التركيزُ على أنّ المسألة القوميّة تشكِّل مضمونَ حركة التحرّر العربيّة. لكنْ ينبغي وجوبُ تجاوز الطرح اليمينيّ التقليديّ للفكرة القوميّة، والطرحِ اليساريّ التقليديّ في نفيه للفكرة القوميّة، والطرحِ الليبراليّ المرتبط بفكرة العولمة والقائمِ على التفتيت الداخليّ.

– ربطُ الفكرة القوميّة ببعديْها الاجتماعيّ والإنسانيّ الأمميّ.

– الربطُ المُحْكَمُ بين الوطنيّ والقوميّ، وبين ساحاتِ المواجهة ومضامينها. وهذا يعني أنّ الاتحادَ في وجه الإرهاب التكفيريّ، مثلًا، يجب أن يرتبطَ بشكلٍ وثيقٍ بالتصدّي للإرهاب الصهيونيّ.

– تعميقُ الوعي بتطوّر المشروع الصهيونيّ، الذي يسير نحو التموضع في كلّ بلدٍ عربيّ. وهذا يستدعي إدراجَ كلّ فصيلٍ عربيّ بندَ “القضيّة الفلسطينيّة” في بند المهامّ الوطنيّة تحت عنوان “مقاومة العدوّ الصهيونيّ.” ويستدعي كذلك إدراجَها في صلب المناهج الدراسيّة، بما يترتّب على ذلك من تشكيل الهويّة والعمليّة التثقيفيّة العامّة بما تخلقه من قناعاتٍ ثابتة، والعمليّة الإعلاميّة بما تخلقه من عمليّة تفاعلٍ يوميّة.

– التيقّنُ من أنّ الانكفاءَ عن المشاركة في القضايا القوميّة لن يقودَ إلى الخلاص السياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ على المستوى الوطنيّ.

ب ــ على المستوى التنظيميّ:

– إيجادُ الصيغ التي تسهِّل البناءَ الجبهويَّ السليم على المستوى الوطنيّ مدخلًا ضروريًّا للبناء الجبهويّ السليم على المستوى القوميّ.

– إيجادُ الحلول العلميّة لمحاولة ضرب فكرة الحزب بـ”الجمعيّة” أو “الشبكة،” وفكرةِ الجبهة المتّحدة بـ”التشريك” أو “المشاركة،” وفكرةِ القيادة بتشغيل إرث الانقسامات التاريخيّة.

– تجاوزُ الصراع التاريخيّ بين أجنحة العمل الوطنيّ، وذلك من خلال تجسير العلاقة بين “الحزب” و”الجمعيّة،” وتحويل “الشبكة” إلى صيغة اتصالٍ نضاليّة، و”الشراكة” إلى أرضيّةٍ لبناء الجبهة في المستوييْن الوطنيّ والقوميّ.

– مواجهةُ عمليّات التفتيت التي تتّخذ صيغةَ تهميشِ فكرة الطبقة الاجتماعيّة لصالح “الشريحة” العمْريّة الشبابيّة ثم النسائيّة و”النوع الاجتماعيّ” الضيّق، وصيغةَ ضربِ الإطار الوطنيّ (وهو الفضاء الموضوعيّ للممارسة السياسيّة) بالتقسيم المناطقيّ والعِرقيّ والمذهبيّ.

رابعًا: المهامّ المباشرة والملحّة أمام حركة التحرّر العربيّة

تتّسم المهامُّ الرئيسة بكونها تتعلّق بالبنية الداخليّة لحركة التحرّر العربيّة، ويحتاج إنجازُها إلى مدًى زمنيّ لا بدَّ منه. لذلك فإنّ التصدّي لها لا ينفصل عن التصدّي للتحدّيات الماثلة التي فرضها التموضعُ الصهيونيُّ الجديد بشكلٍ مباشر، من خلال مجريات الاتفاق الإماراتيّ-الإسرائيليّ وما سيتركه من تأثيرات.

وفي هذا السياق يستدعي الأمرُ تحديدَ الهدف المباشر لحركة التحرّر العربيّة في محاصرة الاتفاق كجزءٍ من “صفقة القرن،” ومنع انتشار مفاعليه، والحؤول دون نجاح التموضع الصهيونيّ. وهذا يقتضي الانتقالَ من مرحلة التعبير عن الموقف إلى التدبير العمليّ، وترتيبِ القوى، وتحديدِ المفاصل والمضامين الرئيسة للمواجهة الفكريّة والقانونيّة والإعلاميّة والسياسيّة وأيّ أشكال نضاليّة تفرضها المواجهةُ في الموقعيْن الأماميّ والخلفيّ، بما يمليه ذلك من المباشرة بإيجاد الأدوات التي يمكن الاعتمادُ عليها.

خاتمة

يمثّل التموضعُ الصهيونيُّ الجديد نقلةً نوعيّةً في مسار التطبيع. وهذا الأمر يعيد تسليطَ الضوء على المهامّ الاستراتيجيّة لحركة التحرّر العربيّة، التي باتت ملزمةً – من أجل الارتقاء إلى مستوى مهامّها التاريخيّة – بإنجاز مجموعةٍ من المهامّ الرئيسة التي تتعلّق بتطوير بنيتها على المستوييْن الفكريّ والتنظيميّ. وهي عمليّة يجب أن تستمرّ بالتوازي مع التصدّي للمهامّ المباشرة التي تفرضها اللحظةُ التاريخيّةُ والإيفاءُ بكلّ متطلّباتها.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق