الانعكاسات السياسية والأيديولوجية لاتفاق أوسلو ووهم المواجهة من الداخل
عابد الزريعي
مدير مركز دراسات أرض فلسطين للتنمية والانتماء
مدخل:
تأتي الذكرى الخامسة والعشرون لتوقيع اتفاق اعلان المبادئ بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل (اتفاق أوسلو)، في الوقت الذي تقف فيه المنطقة في حالة انتظار وتوقع وتساؤل عن فحوى مشروع صفقة القرن، الذي تستعد الإدارة الامريكية لطرحه. مستهدفة بالأساس تصفية القضية الفلسطينية كمدخل لإعادة ترتيب المنطقة، بما يتفق والاهداف الكبرى للمشروع الصهيوني. ان تقديم أي مشروع سياسي لحل القضية الفلسطينية بعد 25 عاما من توقيع اتفاق أوسلو يعني ان الاتفاق الذي كان من المفترض ان يحلها لم يستطع ان يحل شيئا. وان المدى الزمني الذي استغرقه منذ توقيعه وحتى اللحظة كان لابد ان يترك اثاره ونتائجه السلبية او الايجابية على الطرفين الموقعين، وبنسبة تكشف عن أي منهما كان المستفيد او الخاسر من ذلك التوقيع. وعلى الرغم من التضحيات البطولية التي قدمها وما زال يقدمها الشعب الفلسطيني والتي تتبدى في هذه اللحظة التاريخية في أروع صورها عبر مسيرة العودة البطولية، الا ان الحقيقة تستدعي القول انه يقف منقسما ومرتبكا ومحاصرا أمام تحديات قادم الأيام، وقد ترضرض جسده جراء نتائج اتفاق أوسلو، والتي استمرت في ضغطها السلبي على طاقته النضالية لخمسة وعشرين عاما متواصلة. خاصة وان اتفاق أوسلو قد مثل الخطوة السياسية الأخطر في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة. الامر الذي يتكشف من خلال رصد ملامح الأذى الذي الحقه بالنضال الوطني الفلسطيني في مسار تطوره، من اجل تحقيق وإنجاز الأهداف الوطنية وفي المقدمة منها حق العودة الى ارض فلسطين التاريخية، التي باتت صفتها هذه موضع شك وتشكيك بحكم الاتفاق ذاته. وبسبب الأذى الذي الحقة ببنية الحركة الوطنية الفلسطينية من الناحية التنظيمية، الامر الذي أدى الى صرف الجزء الأكبر من جهدها الى محاولة معالجة اوجاعها الناجمة عن الاتفاق أكثر من الالتفات والتحديق في وجه العدو. وبسبب العلاقات التي تُنسج مع العدو والمفاهيم التي اخذت تتغلغل في الاذهان حول معنى الصراع ودلالاته. الامر الذي جعل التقدم باتجاه المواجهة الحاسمة من اجل اسقاط الاتفاق وتداعياته ضرورة لابد منها. وفي هذا المقال سنقف امام ثلاثة عناوين عنوانين تتقاطع مع ما قدمنا به. وهي حسب الترتيب: أولا: شرك التفاوض ووهم السياسة وقلق الوجود. ويجيب على سؤال لماذا كان الوقوع في شرك التفاوض. ثانيا: المترتبات السياسية والأيديولوجية للاتفاق. ويتناول مترتبات الاتفاق التي تكرست على مدى الخمسة والعشرين عاما. ثالثا: مواجهة الاتفاق وتحديد موقع المواجهة. ويدور حول الموقع والموقف الذي يمكن من خلاله مواجهة الاتفاق واسقاطه.
أولا: شرك التفاوض ووهم السياسة وقلق الوجود:
لم يكن الامر يحتاج الى الانتظار لخمسة سنوات حتى عام 1998 موعد انقضاء فترة المفاوضات للمرحلة الانتقالية، والتحول من صيغة الحكم الذاتي إلى الدولة الفلسطينية، ومفاوضات “واي ريفر” بين رئيس الوزراء الإسرائيلي أرئيل شارون والرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات برعاية أميركية، حتى تكتشف القيادة التي وقعت الاتفاق انها تتخبط في شباك شرك نصب لها بإتقان. فالنهايات البائسة تولد دائما من رحم البدايات المشوه. فالطرف الفلسطيني ممثلا بحركة فتح الذي هرول باسم منظمة التحرير الى قاعة مفاوضات أوسلو، بصورة منفردة وسرية ومجردة من أي غطاء او عمق عربي او اسلامي او دولي، ومنعزل عن عمقه الفلسطيني الجماهيري والفصائلي. كان من الواضح انه يهرول للولوج الى داخل القفص. وهو محكوم ومقيد بعاملين يتداخل فيهما الذاتي والموضوعي ويتغلل في عمقهما الحافز النفسي أكثر من الحساب السياسي الدقيق والموضوعي. ويتخلص هذين العاملين فيما يلي:
1 ــ عامل الوهم سياسي: الذي يستند الى قراءة سياسية رغوبيه. ترى ان الوقت قد حان لتوظيف الانتفاضة(1887ــ1993) والتجربة النضالية الفلسطينية من اجل تحقيق انجاز سياسي. وكان هاني الحسن يسوق لهذه القراءة بجملته المفضلة ” الكفاح المسلح يزرع والعمل السياسي يحصد ومجرم من يزرع ولا يحصد. ومجرم من يحصد من غير ان يزرع”. والتي طالما رددها منذ اللحظة التي بدأ فيها التفكير بقطف الثمار السياسية للانتفاضة. كما تعتقد تلك القراءة ان الوضع الدولي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي بات يسمح بهذا التوظيف، لأن إسرائيل فقدت جانبا مهما من قيمتها الاستراتيجية عند الولايات المتحدة الامريكية. وهي الرؤية التي كان يطرحها فيصل الحسيني في الدورة 18 للمجلس الوطني وعلى اساسها تم القبول بقرار 242 حيث تم بعدها الدخول في الحوار مع الامريكان، مع كل ما رافق ذلك من خطوات سهلت عملية الاستدراج الى طاولة المفاوضات. وتتبدى خطورة هذا التفكير في كونه يشتغل بمعزل عن اللحظة المناقضة لمحفزاته والتي تتسم سياسيا بانغلاق الأفق الإقليمي والدولي أمام القضية الفلسطينية، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتشكل نظام الأحادية القطبية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.
2 ــ عامل القلق الوجودي: القائم على الخوف من ان يفرز الواقع قوى او مرجعيات فلسطينية بديلة عن تلك القيادة التي استمرأت الفردية والتفرد والهيمنة على القرار الوطني. وهي مسألة تنامت كنتيجة لبروز حركة حماس والخشية من استقطابها الشارع الفلسطيني في ظل حضورها الجماهيري المتنامي، وكذلك بروز دور الداخل الفلسطيني، الامر الذي تم تغذيته بطريقة مقصودة حيث لوحظ تكثيف عقد اللقاءات مع بعض الوجوه السياسية في الداخل، خاصة المرحوم فيصل الحسيني في بيت الشرق الذي صار محجة للسفراء الاوربيين. وقد فاقم هذا القلق تنامي عزلة القيادة الفلسطينية الإقليمية والدولية بعد حرب الخليج الأولى. الامر الذي لعب دور الحافز للاندفاع باتجاه المفاوضات في ظل الوهم السائد. وقد تعزز هذا الجانب في ظل نزعة هيمنة فردية مستفرده بالقرار الفلسطيني لم تسمح بأية مشاركة لتقييم الوضع واتخاذ القرار الذي يستجيب للمصالح العليا للشعب الفلسطيني.
ان دخول المفاوضات تحت ضغط هذين العاملين سينتج بالضرورة تسرعا وخضوعا للاستغلال والابتزاز السياسي من قبل الجانب الاسرائيلي، الذي لم يكن غائبا عن واقع محفزات الجانب الفلسطيني وعن حقائق اللحظة الدولية، لذلك اراد ان يحقق الحد الاقصى من الاهداف. الامر الذي يمكن ملاحظته من خلال حجم الطواقم الفنية ومن كافة التخصصات التي شكلت ظهيرا وسندا للمفاوض السياسي. المكلف بتحصيل فوائد الحد الاقصى واغلاق كافة المنافذ التي يمكن ان تتنفس الحركة الوطنية الفلسطينية من خلالها. ومن خلال الوقائع يمكن تحديد الهدف الاسرائيلي في تحويل الاحتلال في الضفة وغزة من صيغة مباشرة، الى صيغة غير مباشرة متحررة من ضغط الكتلة الديمغرافية في المخيمات والتجمعات الفلسطينية، تؤدي مهامها عبر اداة فلسطينية وظيفية مكبلة بعديد الاشتراطات السياسية والامنية والاقتصادية. بما يسمح بتشريع احتلال أغلب مساحة فلسطين التاريخية، والالتفاف على الحقوق الوطنية الفلسطينية من خلال عدم الخوض في او تقديم صيغ محددة للقضايا الرئيسة ــ اللاجئين ــ الحدود ــ القدس ــ الدولة ــ وتأجيل تناولها في مفاوضات لاحقة. وتوظيف كل ذلك في التحرك باتجاه التطبيع مع بقية الدول العربية. وخلق البيئة الموضوعية المنتجة للعوامل التي تدفع بالحركة الوطنية الفلسطينية نحو التآكل التدريجي، الناجم عن وضعها وبشكل حاسم أمام خيار الاستسلام السياسي في حال قبول كل فصائلها بالاتفاق، بكل ما يتضمنه من تنازلات سياسية مبدأيه تمس جوهر المشروع الوطني الفلسطيني من ناحية، أو خيار الانقسام في حال رفضه من ناحية ثانية. بكل ما ينشأ على هامش هذه الاهداف من مفاهيم أيديولوجية يتميع من خلالها الصراع وتتآكل صورة اسرائيل كعدو في الذاكرة.
ولقد جاء الاتفاق المنجز كحصيلة لتقابل هاتين الارادتين والرؤيتين المرتبطتين بأهداف كل طرف وحصيلة القوى التي يحوزها بين يديه، وخصوصية ونوعية اللحظة الدولية المساعدة لهذا الطرف او ذاك. وفي ظل ميل في المسار التطبيقي لصالح الطرف الاسرائيلي كناتج طبيعي لاحتفاظه بتفسير الاتفاق بالصيغة التي يريد، ارتباطا بموازين القوى التي يحوزها على الارض وغياب أي مرجعية دولية يمكن العودة اليها حال الاختلاف على هذه القضية او تلك. الامر الذي اتاح له هامشا واسعا من المماطلة والالتواء ظهرت بوادرها وملامحها بشكل جلي لحظة انتهاء المرحلة الانتقالية عام 1998. ونستطيع ملامسة ذلك من خلال النتائج التي خلفها الاتفاق على مدى ربع قرن من الزمان.
ثانيا ـــ الانعكاسات السياسية والأيديولوجية
تكشف حصيلة النتائج الكلية لاتفاق أوسلو بعد خمسة وعشرين عاما من توقيعه عن حقيقتين مختلفتين بالنسبة للجانب الفلسطيني والجانب الاسرائيلي. فقد جاءت النتائج المرسمة على ارض الواقع في المقلب النقيض تماما، لكل ما توهمه وتخيله موقعي الاتفاق من الجانب الفلسطيني، الذي حلم على المستوى السياسي بدولة مستقلة ذات سيادة، وعلى المستوى الاقتصادي بسنغافورة جديدة، فقد تبدد هذا الحلم على ارض الواقع الصلد. أما بالنسبة للجانب الإسرائيلي فقد جاءت تلك النتائج في الموقع القريب جدا من الصورة التي خطط لها وارادها بعد 25عاما من تكريس الوقائع على الأرض. هذا وتتلخص النتائج المباشرة الرئيسة التي تراكمت على مدى ربع قرن من عمر اتفاق اوسلو في مستويين، يتعلق الاول بتلك الانعكاسات التي طالت البنية الوطنية الفلسطينية على المستوى التنظيمي العام المتمثل في العلاقة بين مؤسساته ومسألة التمثيل والوحدة الوطنية … الخ، بينما يتعلق الثاني بتلك التي طالت الجوانب العملية والمضامين السياسية والمفاهيم والوعي بحقيقة العدو وبمسار بناء العلاقات معه. وقد جاءت هذه الانعكاسات بتراكمها السلبي في الجانب الفلسطيني لتشكل تراكما ايجابيا في المقلب الاخر أي العدو الصهيوني، ذلك ان كل خطوة الى الوراء في الناحية الفلسطينية هي خطوة الى الامام بالنسبة للكيان الصهيوني. وتتلخص تلك الانعكاسات في ثلاثة حزم رئيسة نحددها فيما يلي:
أولا: على مستوى الأداة الوظيفية: حيث تبلورت على مدى الخمسة والعشرين عاما السلطة الفلسطينية المنبثقة في تسميتها وتشكيلها ودورها عن اتفاق اوسلو. لتقوم بدورها كأداة وظيفية ووكيل محلي للاحتلال. وقد تمت عملية البلورة وتعزيز هذا الدور من خلال:
1 ــ ايجاد المؤسسات والادارات والوظائف التي توهم بوجود سلطة ذات سيادة، وذلك في سياق عملية تحويل مبرمجة للنضال الفلسطيني لرأس مال رمزي متحالف مع منظمات العولمة المالية وصناديق الدول المانحة. الأمر الذي أوجد طبقة منتفعة مالياً وسياسياً تشابك مصالحها مع استمرار وبقاء هذه السلطة في سياق الدور الذي رسم وحدد لها.
2 ــ اثقالها بجهاز وظيفي ضخم يساعد على السيطرة والتحكم، ويفرض عليها البقاء في حالة احتياج دائم للدعم المالي الخارجي، لاسيما وإنها ترتبط في بنيتها الاقتصادية الهامشية باقتصاد الاحتلال، الذي يمثل مركزا مهيمنا يمتص عبر اليات كثيرة النسبة الاكبر من اموال الدول المانحة التي تضخ للسلطة.
3 ــ دفعها للاستمرار في العملية التفاوضية العبثية سواء بشكل متواصل او متقطع ولكن على قاعدة المماطلة والتسويف بعد افقادها كل ادوات الضغط وتضييق هامش المناورة عليها، الامر الذي ترتب عليه تمييع الحقوق الوطنية الفلسطينية من ناحية. وتحسين صورة اسرائيل أمام العالم وتوسيع مساحة علاقاتها الدولية، ومساعدتها في مواجهة حملات المقاطعة الدولية من منطلق وجود مسيرة سلمية ومفاوضات مع السلطة الفلسطينية.
4 ــ بناء اجهزتها الامنية بإشراف امريكي، وبعقيدة أمنية متعارضة مع متطلبات النضال الوطني الفلسطيني، وكأداة قمع على المستوى الداخلي، وتقديم خدمات امنية لصالح الجانب الاسرائيلي في سياق الصيغة المعروفة بالتنسيق الامني. الذي وفر بيئة ملائمة للتغول الاستيطاني الذي بلغ ارقاما قياسية إذا ما قورن بعدد المستوطنين والمستوطنات قبل توقيع اتفاق أوسلو.
ثانيا: تفكيك البنية الوطنية: لقد ترتب على بناء السلطة وتضخيم وظائفها، تعرض بنية ودور ومؤسسات منظمة التحرير بوصفها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده الى عملية تفكيك وتبديد لأدوارها الرئيسة. ويمكن تلمس خطورة هذه المسألة إذا وضعنا في الاعتبار ان السلطة الفلسطينية المنبثقة عن اتفاق أوسلو لا ينضوي في اطارها من الناحية الموضوعية سوى جزء من ابناء الشعب الفلسطيني وهم أبناء الضفة الغربية وقطاع غزة (حاملي الرقم الوطني). الامر الذي أدى الى تهميش الشتات الفلسطيني من ناحية، والجماهير الفلسطينية في الأراضي المحتلة عام 1948 من ناحية ثانية، وعزلهم سياسيا عن الجماهير الفلسطينية في الضفة والقطاع من ناحية ثالثة. وتقسيم بنية الحركة الوطنية الفلسطينية بشكل شامل ومركب. حيث باتت تعيش انقساما جغرافيا وديمغرافيا يشمل الحياة الفلسطينية بكافة مناحيها السياسية الاقتصادية والاجتماعية والمهنية والأيديولوجية والتنظيمية. وعلى هامش ذلك تفشت عديد الظواهر الاجتماعية السلبية مثل نمو ظاهرة الانتماءات الجهوية والعشائرية والعائلية التي تنتشر في المخيمات والمدن والقرى.
ثالثا: على مستوى الوعي: فتح اتفاق أوسلو والعلاقات التي نمت بالتساوق معه بين السلطة والاحتلال الباب واسعا لثقافة التطبيع، كنتيجة منطقية للسلوك السياسي للسلطة الفلسطينية وأجهزتها، بما ترتب على ذلك من عملية تمييع ونقل الوعي بالصراع مع العدو إلى مستوى الخلاف مع الآخر. فالجيل الفلسطيني ما دون 25 سنة قد ولد ورأى قيادته وهي تصافح الاسرائيلي وتستقبله في مقراتها وسمع على لسانها تصريحات الاشادة به وبإبداعه الفني، ورأى بأم العين اجهزته الامنية وهي تسلم مقاومين فلسطينيين الى الاحتلال بل وتطلق النار عليهم، وغير ذلك من الممارسات التي تنخر في عمق الوعي وتزيف المشاعر تجاه العدو. كما فتح توقيع الاتفاق الباب على مصراعيه ومنح المشروعية لعديد الأطراف العربية للتطبيع مع العدو الصهيونية بحجة إننا نفعل مثلما يفعل الفلسطينيون. “وهم ليسوا بملكيين أكثر من الملك”.
لذلك فان الاتفاق لم يكن مجرد صيغة بنود سياسية تميل لصالح هذا الطرف او ذاك فقط، وانما وهو الاخطر كجهاز صناعة وترويج لأيديولوجيا التطبيع وتمييع الصراع مع العدو وبشكل عميق سواء من خلال ما يمكن تسميته بالاعتياد اليومي المدعوم بأجهزة وادوات تسمح بذلك، وفي هذا السياق برزت ظاهرة المنظمات غير الحكومية التي راحت تسرب أطروحاتها التي تروج لليبرالية السياسية وتفتقد لأي خطاب تحرري ينسجم والظروف الموضوعية للشعب الفلسطيني، وباتت هذه المنظمات تستقطب العديد من كوادر الحركة الوطنية الفلسطينية النشطة والفاعلة. وترافق ذلك مع تغلغل المفاهيم والقيم الليبرالية الى عمق الخطاب الفلسطيني وباليات ترويج وصيغ بعيده جدا عن الحقيقة الموضوعية للشعب الفلسطيني الذي يمر بمرحلة تحرر وطني لها اسسها وقوانينها ومفاهيمها ايضا. وبدأت الأفكار الليبرالية المشبعة بقيم الربح والأنانية والمنافسة والفردية في التسلل إلى المناهج التعليمية الفلسطينية. في ظل احتضان وحماية من قبل شرائح طبقية ذات مصالح ومنافع متضخمة ومتعاظمة ومرتهنة بإرادة الاحتلال والدول المانحة الدافة في هذا الاتجاه. وفي هذا الجانب يستدعي الامر الانتباه الى الفرق بين اتفاق اوسلو واشباهه عربيا، واي اتفاق سياسي في التاريخ الانساني التي يدور الخلاف والصراع حولها ارتباطا بالفوائد المتحققة من مجمل بنودها السياسية او بعضها او توافقها مع اللحظة التاريخية لتوقيعها، بينما نمط اتفاق اوسلو واشباهه يتجاوز هذه السمة الى الصراع حول المفاهيم التي يقوم الصراع على اساسها، لاسيما وان هذه المفاهيم ترتبط في جوهرها بنمط ونوعية العدو الذي تنهض مفاهيمه على اساس التطهير الحضاري الشامل وليس على بعض المكاسب السياسية المحددة، لذلك يتميز دفاع المنافحين عنه بالتبرير الأيديولوجي اكثر من السياسي الى ان يتحول الاتفاق والمتحمسين له والمروجين لأهميته الى جهاز انتاج وترويج أيديولوجي كامل.
ثالثا: مواجهة الاتفاق وتحديد موقع المواجهة
لقد بات واضحا ان هناك عملية ربط لمصير الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده باتفاق أوسلو وإفرازاته، التي تتبدى أمامنا يوما بعد يوم في صورة تآكل للحركة الوطنية الفلسطينية وتراجع متسارع للمشروع الوطني. ذلك يعني ان كل محاولات مواجهة الاتفاق ومنذ لحظة توقيعه لم تنجح ولم تستطع التصدي الفاعل للطرف الفلسطيني الذي وقعه، والمتمسك به حتى اللحظة والمدافع عن خياره بطريقة تحمل قدرا كبيرا من الاستفزاز ان لم نقل الاهانة في كثير من الاحيان.
ان فشل التصدي للاتفاق وبمعنى أكثر تحديدا اسقاطه، ناجم عن الموقع الذي اختارته القوى الرافضة له في عملية التصدي. لقد تم التصدي للاتفاق من قبل مختلف القوى من داخله أي من خلال الانخراط في بنية المؤسسة الناجمة عنه. هذا الموقع في المواجهة لن يقود في نهاية المطاف الا الى التكيف مع افرازاته مهما حسنت النوايا وبغض النظر سار هذا التكيف بسرعة او ببطئ. ان نمط اتفاق اوسلو الذي يتجاوز حدود السياسة الى الأيديولوجيا لا يمكن مواجهته الا من خارجه وبرؤية وارادة شاملة. ومثل هذه المواجهة تستدعي مجموعة من المدركات الاساسية نلخصها في اربعة:
1 ــ ان الصراع مع العدو الصهيوني في عمقه وجوهره صراع شامل يتجاوز الحدود الى الوجود، وهي مسألة غير ناتجه عن هوامات سيكولوجية، بقدر ماهي منبثقه من طبيعة العدو وتعريفه ونوعية برامجه التي تؤكد يوما بعد يوم ان استراتيجيته تقوم على التطهير الحضاري الشامل بأبعاده الثلاثة (العرقي ــ الثقافي ــ المؤسساتي)، بما يعنيه ذلك ان الابارتهايد الذي نستسهل توصيفه به، بالنسبة له عبارة عن محطة استراحة على الطريق وليس محطة وصول.
2 ــ ان القضية الفلسطينية في جوهرها قضية حركة تحرر وطني، وكل محاولة للقفز عن هذه الحقيقة بمحدداتها الموضوعية، ستقود الشعب الفلسطيني الى متاهات جديدة كاستمرار للمتاهة التي افرزها واوجدها اتفاق اوسلو. وهي مسألة تستدعي إعادة بناء المشروع الوطني برنامج وأدوات بما يكفل تجديد التمسك بالأهداف الوطنية التاريخية، بديلاً لتنازلات أوسلو وتجديد النضال والمقاومة ضد الاحتلال، على ذات القاعدة التي لعبها الميثاق الوطني بصيغته الاصلية، في توحيد الشعب وبلورة هويته وتأكيد رؤيته لدوره في التاريخ. وبما يستدعيه ذلك من تركيز العملية التعليمية والتثقيفية والبنائية بعيدا عن تسلل الأفكار الليبرالية المشبعة بقيم الربح والأنانية والمنافسة والفردية ومواجهة ثقافة التطبيع وتدعيم قيم وثقافة التحرر الوطني.
3 ــ ان الوحدة الوطنية ــــــ والوحدة الوطنية غير المصالحة، ـــ الضامنة لتجميع الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده حول اهدافه الوطنية، من خلال ايجاد الاليات والادوات التنظيمية الديمقراطية والمهنية وغير ذلك، تشكل الاداة التاريخية القادرة على الموائمة بين حجم التضحيات التي يقدمها الشعب الفلسطيني ومستوى تحقيق وملامسة اهدافه التاريخية. وفي هذا المستوى يستدعي الامر الاشتغال على مستويين. اولا على المستوى العام وذلك بالتوقف المسؤول امام منظمة التحرير الفلسطينية في صيغتها وصبغتها الراهنة، والاجابة على سؤال: هل عادت قادرة على القيام بدورها كأداة جامعة ومنظمة للمشروع الوطني الفلسطيني.؟ هل يستدعي الامر بناء ثالث لمنظمة التحرير؟ هل يستدعي الامر بناء ادوات جديدة؟ وذلك بعيدا عن الهلع وتضخيم الخوف او الاستسهال. المسألة الاساسية هي ايجاد الاداة المستندة في بنائها لأوسع مشاركة ديمقراطية شعبية مقاومة للاحتلال ومعبرة عن الهوية الوطنية على المستوى المجتمعي. وثانيا على المستوى الخاص بتوقف الفصائل امام تجربتها وبنيتها وأن تتقدم نحو إعادة بناء ذاتها وتجديد أطرها وقياداتها لتكون قادرة على النهوض بالأعباء التي تفرضها اللحظة التاريخية بكل تحدياتها
4 ـ ان اعادة تجسير العلاقة بين العامل الوطني الفلسطيني والقومي العربي بات امرا مصيريا وضروريا، وقد لاحظنا ان اتفاق اوسلو في افرازاته السلبية لم يتوقف فقط عند حدود الساحة الفلسطينية بل تجاوزها الى الساحة العربي. وبما تستدعيه عملية الاعادة من ضرورة الخروج الفلسطيني من المحورة حول الذات والتركيز على التلاحم المصيري بين القضية الفلسطينية والأمة العربية من ناحية، وايمان عربي بان القضية الفلسطينية ليست بندا في خانة المهام القومية كما تعودت ان تضعها فصائل العمل الوطني العربية، لكنها وبحكم التطور الموضوعي للمشروع الصهيوني الذي يسير باتجاه تجاوز مرحلة المركزة على الأرض الفلسطينية كوجود استيطاني مجسد، إلى المركزة في كل بلد عربي على حدة كوجود ثقافي واقتصادي واستخباراتي، باتت قضية تستدعي ان تدرج في بند المهام الوطنية بالنسبة لكل فصيل عربي وتحت عنوان” مقاومة العدو الصهيوني”.
خاتمة:
لقد شكل اتفاق اوسلو الخطوة السياسية الاخطر في تاريخ النضال الوطني الفلسطيني المعاصر، والتي جاءت كأحد افرازات الهيمنة والتفرد بالقرار داخل المؤسسة الفلسطينية، بما ترتب على ذلك من نتائج كارثية أبرزها تحول منظمة التحرير الفلسطينية موضوعيا الى سلطة تقوم بدور الوكيل المحلي للاحتلال، بكل ما يواكب هذه المسألة من قضايا تنخر في عمق الجسد الفلسطيني ، وانعكاسات سلبية تتبدى في الانقسام وتليين الوعي بالصراع مع العدو الصهيوني وفتح الباب واسعا امام ثقافة التطبيع، لذلك باتت مسألة اسقاط اتفاق اوسلو مسألة ضرورية يرتبط بها مصير المشروع الوطني الفلسطيني، ومن اجل تحقيق ذلك فمن الضروري تحديد موقع المواجهة مع الاتفاق الذي لا يمكن مواجهته بشكل ناجع الا من خارجه وليس من داخله. ان اسقاط اتفاق اوسلو سيفتح الطريق امام المشروع الوطني ليستعيد القه وتوهجه خاصة في ظل تراجع الهيمنة الامريكية وبروز ملامح بناء دولي متعدد الاقطاب، وفي ظل الافاق الواسعة التي فتحتها مسيرة العودة بتضحياتها الجسام.