الذكرى الثانية والسبعون للنكبة وسؤال المصير الوطني والقومي
عابد الزريعي – مدير مركز دراسات أرض فلسطين للتنمية والانتماء
كان الراحل قسطنطين زريق (1919-2000) اول من تلمس السؤال، حين اشتق مصطلح النكبة في آب/أغسطس عام 1948، في كتابه “معنى النكبة.” الذي أشار فيه الى نتائج هزيمة 1948 الكارثية على المشروع القومي العربي. ثم عاد في آب / أغسطس عام 1967م وكتب في اجواء هزيمة حزيران كتابا عنوانه “معنى النكبة مجدداً”، وقدم صورة لفداحة النكبة وتحليلا لأسبابها ومقترحات لتجاوزها، على امل اغلاق الطريق على حدوث نكبات جديدة. لكن الطريق وان كان قد أُغلق على المستوى الذهني الا انه لم يغلق على مستوى الواقع. وبقي مفتوحا لتمر عليه عديد النكبات بشكل متسارع الى الحد الذي بات يعاني من ازدحام مروري. وفي سياق استمرار فعل النكبة الأولى تأتي ذكراها الثانية والسبعون في لحظة تاريخية فارقة على كافة المستويات الدولية والاقليمية والقومية والوطنية، وبشكل لم يسبق له مثيل قياسا لكل لمحطات تذكرها السابقة. ويكاد يكون الاشتباك المصيري بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، هو أحد علامات هذه اللحظة التاريخية التي تحاول فيها كل القوى على خارطة العالم، تلمس طريق خلاصها المشتبك حكما بخلاص قوى اخرى، تناصبها العداء على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والاستراتيجية. وفي ظل هذا الاشتباك يعاد طرح سؤال المصير الوطني الفلسطيني والقومي العربي كسؤال واحد ينتظر اجابة واحدة. خاصة في ظل تقدم القوى التي ساهمت في صناعة النكبة منذ 72 عاما، للدفاع عن مواقعها التي تخشى من زوالها، ومن اجل ابقاء العالم رهينة لتصوراتها. بما يعنيه ذلك انها ليست في وارد معالجة أي من اثار النكبة فقط، بل تسعى الى تأبيدها من ناحية ونزعها من الذاكرة الانسانية من ناحية اخرى، كشرط لضمان حماية مواقعها واستمرارها في الهيمنة. لأن هذه القوى التي تتقدمها الولايات المتحدة الامريكية، والى جانبها او خلفها كل من الحركة الصهيونية واسرائيل والرجعية العربية، باتت تدرك جيدا وفي لحظة احتدام الصراع الدولي، ان الهيمنة المطلقة على منطقة الشرق الاوسط، باتت منطقة رخوة وقابلة لان تحقق فيها انتصارا استراتيجيا حاسما، وان هذا الانتصار سيشكل أحد اهم مفاتيح تحسين مواقعها في الصراع الدولي، على طريق حسمه لصالحها. وهنا بالضبط تكمن مبررات سؤال المصير الذي نطرحه على المستويين الوطني الفلسطيني والقومي العربي.
أولا: سؤال المصير الوطني الفلسطيني:
ينبثق سؤال المصير الوطني الفلسطيني في اللحظة الراهنة، من مسألة مفادها ان العدو الصهيوني بات على اعتقاد ان الانتقال من المستوى الاول لاحتلال فلسطين الى المستوى الثاني قد حان. ذلك ان قيام إسرائيل عام 1948 كان سيطرة على اغلب الجغرافيا وفشلا في السيطرة على الدور الذي بقي معطلا، الامر الذي أحدث مفارقة تاريخية بين جغرافية فلسطين الطبيعية ودورها الحضاري والتاريخي، كمفصل ربط بين جناحي الامة، بكل ابعاده الثقافية والاقتصادية والسياسية. وقد نتجت هذه المفارقة بسبب الرفض العربي لوجود اسرائيل، ومنع تحول استعمار الجغرافيا الى استعمار للدور. ومن اجل ذلك قامت الأنظمة العربية بعملية حصار ومقاطعة للكيان الصهيوني، وابقته حبيس الجغرافيا التي يسيطر عليها، وبنت عديد التصورات وقامت بعديد المحاولات الفاشلة لطرده منها. ولفهم العلاقة بين المستويين علينا ان نعي ان فلسطين بلد صغير جدا إذا نظرنا اليها من زاوية المساحة 27 ألف كم فقط، لكنها كبيرة جدا إذا نظرنا اليها من زاوية الدور، الذي تصنعه وتتحكم فيه وتمنحه تلك المساحة الصغيرة. لذلك ما من امبراطورية في التاريخ ارادت ان تصنع مجدا الا ورنت ببصرها الى تلك المساحة الصغيرة، التي تشكل عنصر ربط حاسم بين قارات العالم وبحاره وحضاراته ودياناته، وما من استراتيجية كونية يمكن ان تُرسم بمعزل عن النظر الى تلك المساحة. لقد بدأ الاحتلال الصهيوني يعتقد ان استكمال احتلال الجغرافيا باحتلال دورها بات ممكنا بسبب اختراق الموقف العربي باتفاقيات التسوية والتطبيع بمختلف اشكاله، حتى الوصول الى ما يشبه حالة الانهيار الرسمي. ان الانتقال الى المستوى الثاني يتبدى امام اعيننا في تركيز العدو على ربط الدول العربية بخطوط المواصلات البرية والجوية التي تشكل شرايين دور فلسطين الذي يريد ان يرثه بموافقة عربية رسمية. وهنا بالضبط ينبثق سؤال المصير على المستوى الوطني الفلسطيني. المستند الى اطروحة مفادها ان استمرار تطور الاختراق الصهيوني للموقف العربي على عجلات صفقة القرن بمستوياتها المختلفة، يعني اكتمال احتلال فلسطين وبالنتيجة سحبها من سياق التداول السياسي.
ثانيا: سؤال المصير القومي:
اما على المستوى القومي، فان السؤال يستند على سؤال اخر مفاده، ماذا لو تحقق السيناريو المعد للقضية الفلسطينية.؟ تكمن اجابة السؤال في التحديد الدقيق لمرتكزات المشروع القومي كمشروع نهوض بالفعل لأمة موجودة بالقوة، أي التقدم الى الامام من دائرة الوعي بالانتماء القومي الى دائرة تجسيد هذا الوعي، بما يعنيه ذلك من كسر حلقات القيد الثلاثة. الاحتلال والتبعية والتجزئة. وإذا كان قيد الاحتلال يمثل الحلقة الاساس في هذه السلسلة، فان النضال ضد الحلقتين الاخيرتين لا يمكن ان يكون الا في الارتباط الوثيق به، وبالنتيجة فان التسليم باستحالة كسر الحلقة الرئيسة حلقة تحرير الارض يعني التسليم باستحالة كسر حلقة التبعية والتجزئة، بما يقود الى تعميقهما. وبالنتيجة الانهيار التاريخي للمشروع القومي. لان القوى المعادية لن تكتفي بما حققته وانما ستواصل الهجوم لضرب المشروع بالقوة أي ضرب المرتكزات العميقة والأساس العميق للمشروع القومي، بهدف إفقاده اية ممكنات للنهوض المستقبلي. وهنا ينبثق سؤال المصير بالنسبة للمشروع القومي. كسؤال مرتبط بشكل وثيق مع سؤال المصير على المستوى الوطني الفلسطيني.
ثالثا: الى أين؟:
تتسم اسئلة المصير بكونها اسئلة وجودية استشرافية وترجيحية. تفتح الباب على احتمالات عدة، مع الانتباه الى ان المعطيات الحاضرة قد ترجح احتمالا على اخر. وهنا بالضبط يُطرح تحدي التحكم في الاتجاه. وتبرز ارادة الخروج من المسار الحتمي الذي تم رسمه وهندسته من قبل العدو. وذلك يستدعي اولا الوعي العميق بتحديات اللحظة التاريخية الراهنة التي تشكل البيئة الموضوعية لطرح السؤال. ويستدعي ثانيا صياغة وبلورة قوى وادوات الفعل القادرة على التعامل مع هذه التحديات. ومن خلال جدلية العلاقة بين الوعي والاداة يمكن ان تنبثق الاجابة على سؤال الى اين.؟ الى حيثما نريد؟ أم الى حيثما يريد العدو.؟