اتفاق ابراهام – من اجل فهم أعمق ومواجهة أوضح وأشمل
عابد الزريعي
مدير مركز دراسات أرض فلسطين للتنمية والانتماء
يشكل الاتفاق الموقع بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة برعاية امريكية في 13 أغسطس (آب) 2020، لحظة فارقة في تاريخ الصراع العربي ــ الإسرائيلي. بتدشينه للحظة تحول نوعية تتمثل في جدية تموضع المشروع الصهيوني في جغرافية (المحيط) الطوق الثالث، باليات ومضامين جديدة، بعد ان قطع شوطا متقدما من مرحلة التموضع في جغرافية القلب (فلسطين). اذن نحن لسنا امام حدث يمكن التراجع عنه او التمسك به بعناد ومكابرة عمياء، وانما امام استراتيجيا لمرحلة قادمة، تفرض وجود استراتيجية للمواجهة أكثر رقيا وقدرة على التحدي. الامر الذي يستدعي فهم عميق للاتفاق بعيدا عن استنزاف الذات في التوصيف الشكلي والانفعالي، وباتجاه وضع أسس أوضح واشمل للمواجهة. هذه محاولة للقراءة ضمن العناوين الأربعة المدرجة.
أولا: ابراهام من الممر الى المقر.
أطلقت إسرائيل على الاتفاق أسم اتفاق إبراهام أو اتفاقيات أبراهام. نسبةً إلى النبي إبراهيم، بوصفه الشخصيةً المحوريةً في الأديان السماوية الثلاث. التسمية الإسرائيلية تقودنا الى الإمساك بخيط العلاقة مع مسار ابراهام الذي تم اطلاقة في جامعة كامبريدج عام 2007 كمسار وطريق ثقافي يمضي على خطى رحلة إبراهيم من اور الى فلسطين الى مصر الى الجزيرة العربية. وقد تم اعتماد مبادرة مسار إبراهيم من قبل منظمة السياحة العالمية، وتحالف الحضارات التابعين للأمم المتحدة وشركاء دوليين آخرين. بهدف ربط الشعوب القاطنة على طول المسار في علاقات ثقافية واقتصادية. كونه يمثل مكانا للالتقاء والتواصل بين الناس من الشرق الأوسط. بما يعنيه ذلك ان المسار يشكل محاولة لإيجاد مدخلا للتطبيع الشامل على قاعدة شطب اسم فلسطين واستبداله (بأرض إسرائيل قديما وبإسرائيل الدولة حديثا). ومن الملفت ان الامارات كانت قد أسست منذ عام تقريبا مجمعا دينيا يجمع كنيساً وجامعاً وكنيسة في جزيرة السعديات بابي ظبي أطلقت عليه اسم “بيت العائلة الإبراهيمية”. وعلى الرغم من ان الفقرة الواردة في البيان الثلاثي الرسمي ونصها: “يمكن لجميع المسلمين القادمين في سلام زيارة المسجد الأقصى والصلاة فيه، وينبغي أن تظل الأماكن المقدسة الأخرى في القدس مفتوحة أمام المصلين من جميع الأديان”. وهي مأخوذة بمستوى معين من النص الوارد في صفقة القرن، لا تشير الى إبراهيم بشكل مباشر، الا انها تحيل من طرف خفي الى المسار الذي أسس له منذ عام 2007. وإذا كان الاتفاق يتم مع الامارات التي لم يصلها إبراهيم، فان الإشارة الضمنية والاسم المعلن من قبل إسرائيل يؤشر أيضا الى ان الاتفاق ليس سوى بداية في مسار يبدأ من الامارات ثم يمضي بشكل معاكس. وبما يعنيه ذلك ان الاتفاق عبارة عن حلقة في مسار تطبيع متواصل في سياق مرحلة جديدة ينتهي فيها مصطلح الصراع العربي الإسرائيلي، وهو الامر الذي دأب نتنياهو الإشارة اليه. كما ان التسمية في حد ذاتها عبارة عن رسالة ذات حمولة دينية لتأجيج حماس المتدينين اليهود القاعدة الصلبة لليمين الاسرائيلي ولرعايا الكنيسة الانجيلية خزان ترامب الانتخابي.
ثانيا: التوقيت العرضي والمعنى الاستراتيجي
تكشف المعلومات المتداولة ان الاشتغال على الاتفاق قد استغرق 18 شهرا من التفاوض، بما يعنيه ذلك ان ترتيب الامر كان جاريا قبل الحديث عن الضم، وحتى قبل اعلان صفقة القرن بشكل رسمي. لذلك فان تأسيس قاعدة لفهم أعمق للاتفاق يستدعي الانطلاق من ضرورة التمييز بين توقيت إعلانه من ناحية، ودلالاته الاستراتيجية من ناحية ثانية. فمن الواضح ان توقيت الإعلان يرتبط بلحظة عابرة تتعلق بالانتخابات الامريكية والأوضاع الإسرائيلية. بكل ما يرتبط بذلك من توظيفه في خدمة كل من ترامب لأسباب تتعلق بحملته الانتخابية من جهة، وخدمة نتنياهو لأسباب تتعلق بتراجع شعبيته من جهة ثانية. وفي هذا المستوى تبرز الامارات كأداة صالحة للتوظيف من اجل اسداء تلك الخدمات. أما على مستوى الدلالات الاستراتيجية فالأمر يتجاوز ذلك بكثير. ويمكن تلمس الامر من خلال الاثار الإيجابية السبعة للاتفاق التي بشرت بها ونشرتها السفارة الإماراتية بواشنطن، ومقارنتها بنص البيان الثلاثي الصادر. وأول ما يلفت النظر ان أربعة من هذه (الاثار الإيجابية) ليست أكثر من دخان تغطية على الاثار والنتائج الكارثية الحقيقية. وتتلخص الإيجابيات المزعومة في ان الاتفاق يوقف الضم ويمنع تصاعد العنف، ويحافظ على قابلية حل الدولتين، ويخلق احتمالات جديدة في عملية السلام، ويعزز استقرار الأردن. ويؤكد بقاء الامارات داعما قويا للشعب الفلسطيني. وهي اثار يكذبها نص البيان الثلاثي ووقائع الاحداث، فمسالة الضم وردت بصيغة ملتبسة أكد نتنياهو انها لا تلغي الضم وانما تؤجله فقط. وقضايا الدولة والسلام لا وجود لها في الاتفاق الذي اعتبره نتنياهو سلام مقابل السلام. وواضح تماما ان الهدف من ترويج هذه المنجزات الوهمية هدفه تحييد الأردن والفلسطينيين وتفادي اية ردود فعل عربية او دولية على الاتفاق، أي محاولة تسويق ليس أكثر. بل ان الربط بين الاتفاق وتعزيز استقرار الأردن يتضمن إشارة تهديد ضمنية. اما الإيجابيات الثلاث الاخرى التي تتحدث عنها سفارة الامارات فهي تلك التي تمثل جوهر الاتفاق ومضامينه الاستراتيجية، وقد أخذت نصا من البيان الثلاثي وتكاد تكون صياغة مختصرة لما هو وارد في صفقة القرن. وتتمحور حول تسريع النمو والتطور وتوسيع الفرص للشباب. وحول التأشيرات السياحة والأعمال والاتصالات وروابط الشحن والتعاون الصحي والأمن المائي والغذائي والتغير المناخي والتكنولوجيا والطاقة والتبادل الثقافي والتعليمي وزيارات على المستوى الوزاري وتأسيس سفارات. لتنص صراحة على الفقرة الواردة في البيان والتي تقول ان الإمارات وإسرائيل وبمشاركة أمريكا ستطلقان أجندة استراتيجية للشرق الأوسط، الأمر الذي سيؤدي على تعميق التعاون الدبلوماسي والتجاري والأمني إلى جانب الدول الأخرى الملتزمة بالسلام. وبمعنى ادق تشكيل تحالف إقليمي بين قوى ما يسمى بالسلام في مواجهة إيران على قاعدة تفكيك النظام الإقليمي العربي، وإعادة تركيبه في صيغة جديدة. لذلك لم يتردد ترامب في اعتبار الاتفاق إنجازا تاريخيا، ولم تتوان صحيفة إسرائيل اليوم عن القول انها تشهد ميلاد الشرق الأوسط الجديد. على ضوء ذلك فان العابر المرتبط بتوقيت اعلان الاتفاق سينتهي ويمر بعد شهور معدودة، بغض النظر عن نجاح ترامب ونتنياهو او فشلهما، ويبقى الاتفاق الذي ستتعامل معه اية حكومة إسرائيلية او أمريكية قادمة بوصفه منجزا استراتيجيا يستحق البناء عليه وليس نقضه، مثلما حصل مع اتفاقات كامب ديفيد ووادي عربة واوسلو. حيث تعددت وتتالت الحكومات الإسرائيلية والأمريكية، لكن بقيت الاتفاقيات كرصيد استراتيجي للبلدين.
ثالثا: الاتفاق ليس تسوية وليس تطبيعا وانما تموضعا صهيونيا جديدا.
تتفق كل التسميات الأخرى التي أطلقت على الاتفاق مثل: اتفاق التطبيع الإماراتي الإسرائيلي، معاهدة السلام الإماراتية الإسرائيلية، اتفاق السلام الإماراتي الإسرائيلي، الاتفاق الثلاثي (الإماراتي-الإسرائيلي-الأمريكي). على توصيف الصيغة التي جمعت بين الأطراف الموقعة بانها اتفاق من ناحية الشكل. أما من حيث المضمون فالأمر يبدو مختلفا. فالاتفاق المطروح ليس اتفاق تسوية لعدم وجود أي شكل من اشكال المواجهة بين الامارات وإسرائيل، وليس اتفاق تطبيع بالمعنى المتعارف عليه. لاسيما وان البلدين قد شهدا حالات تطبيع كثيرة شملت مختلف المجالات على مدى السنوات الماضية، أي ان العلاقات بينهما لم تكن غير طبيعية ليأتي الاتفاق ويجعلها طبيعية ومستساغة. كما ان الامر يتجاوز في دلالاته العميقة القول بان ما كان يجري في السر صار في العلن، لاسيما وان كل شيء كان يجري علنا. وهنا من الضروري الانتباه الى ان حالات واحداث التطبيع بتكرارها وتراكمها الكمي على مدى السنوات الماضية، وفي ظل ظرف موضوعي موات خلقته الاحداث التي تعيشها المنطقة، ومن ضمنها التردد الفلسطيني في الخروج من مستنقع التسوية، وإنجاز وحدة وطنية قادرة على الفعل ومانعة للانزلاقات الإقليمية، تحولت الى نوعية جديدة عنوانها التموضع الإسرائيلي في الإقليم العربي وبالتحديد في دول المحيط ودول الطوق الثالث. لذلك جاء الاتفاق كلحظة تحول نوعية لأحداث تطبيعيه متراكمة ومتعددة على مدى السنوات الماضية، شملت مختلف مناحي الحياة، سواء في الامارات او غيرها، هذه الاحداث كانت تتراكم كميا لتصل الى كيفية جديدة صيغتها الاتفاق الذي نحن امامه. وهي مسألة قابلة للتكرار في بلدان أخرى، خاصة وان هذا الاتفاق في حد ذاته أسس لبداية تراكم جديد على مستوى دول، وبات قابل للتحول الى نوعية جديدة شاملة إذا لم يتم محاصرته واجهاضه.
رابعا: استراتيجيات مواجهة التموضع الصهيوني الجديد.
ان محاصرة الاتفاق واجهاضه قبل ان يستفحل امره ويصير عصيا، تستدعي الانتباه الى مجموعة من القضايا بما يترتب على كل منها من مهام وادوار.
1 ــ ان اتفاق ابراهام بالمعنى الجيوبولتيكي يشكل اعلانا عن التموضع الجديد للمشروع الصهيوني، في منطقة المحيط، بعد انجاز تموضعه الأول في فلسطين كمنطقة قلب. بكل ما يترتب على ذلك من اصطفاف جديد للقوى وإعادة فرز، واتساع لدائرة المواجهة المباشرة والشاملة على مستوى النظام الإقليمي العربي. لذلك فان تحمل أعباء المرحلة الاستراتيجية القادمة ليست مهمة فلسطينية فقط، لاسيما وان التموضع الجديد يجري بشكل متسارع في المحيط، بما يعنيه ذلك من دور لابد منه على المستوى العربي.
2 ــ ان الاتفاق يشي ببوادر بناء تحالف لمجموعة من الأنظمة العربية على هدى منه. ستعمل على استهداف أنظمة عربية أخرى، اما لان موقعها الجغرافي يشكل تنغيصا عليها، مثل الكويت التي يشكل موقفها الرافض للتطبيع حالة نشاز في منطقة الخليج. او لان ازاحتها يشكل شرطا للامساك بمنطقة استراتيجية كاملة، مثل الجزائر التي تشكل اخر العقبات الصلدة في المغرب العربي. وذلك إضافة الى عمليات الاستهداف القائمة ضد سورية واليمن ولبنان المقاومة. ذلك يستدعي التحرك باتجاهين أولا التنسيق مع محور المقاومة لبناء جبهة مقاومة وصمود واسعة. تضم قوى المحور المعروفة والأطراف العربية المستعدة، في صيغة تتشابه الى حد ما ــ مع إدراك المتغيرات ــ مع جبهة الصمود والتصدي التي شكلت أداة لمنع الانهيار بعد زيارة السادات للقدس. ويمكن ان تكون الخطوة الأولى بعقد لقاء وليكن مغلق على مستوى الخبراء لوضع أرضية للانطلاق. على مستويين رسمي يضم الأنظمة العربية الرافضة للتطبيع، وشعبي تضم القوى ومنظمات المجتمع المدني والشخصيات الفاعلة والمفكرين، ويمكن البدء على مستوى قطري على طريق الارتقاء الى مستوى اشمل، وفي هذا الجانب تشكل الجبهة الشعبية الجزائرية لمقاومة التطبيع انموذجا قابل للتكرار على المستويين القطري والقومي.
3 ــ ان الموقف الفلسطيني الرسمي الرافض للاتفاق، لم يستطع ان يبارح موقفه المتمسك باتفاق أوسلو بكل نتائجه وتداعياته. وإذا ما اضفنا الى ذلك وطأة الانقسام الثقيلة. وإمكانية وجود شريك فلسطيني مستعد للتعامل مع صفقة القرن، الامر الذي يمكن استنتاجه من قرب محمد دحلان من دائرة الاتفاق الذي شارك عراب صفقة القرن كوشنير في هندسته. وكذلك من خلال ما يصدر عن “حركة الإصلاح الديمقراطي” وقادتها من مواقف. كل ذلك يؤشر الى مخاطر حقيقية تحيط بالقضية الفلسطينية، التي يراهن صناع الاتفاق على تصفيتها كمدخل رئيس لتنفيذ مشروعهم الإقليمي. لذلك لابد من المسارعة ببناء الوحدة الوطنية الفلسطينية على قاعدة انهاء مسار التسوية وكل افرازاته، وضرورة إطلاق حالة نضالية شاملة وعميقة. تربك العدو وتشكل عامل ضغط على المترددين ودفعهم لتطوير مواقفهم، وتغلق الباب على أي محاولة لاخترق الاجماع الوطني الرافض لصفقة القرن. وتشكل كابحا للأنظمة العربية التي تحمل قابلية الانزلاق، مستفيدين من دروس الانتفاضة الثانية التي اجبر زخمها النضالي أكثر من بلد عربي على اغلاق مكاتب التمثيل الإسرائيلية الموجودة على أراضيها.
4 ــ ان الغاية الأساسية التي يتنزل الاتفاق في سياقها تتلخص في إعادة بناء النظام الإقليمي العربي عبر التموضع الصهيوني الجديد في ثناياه ثم اخذ المنطقة في صراع إقليمي عنوانه الرئيس ضرب إيران التي تشكل داعما رئيسا لقوى المقاومة ضد المشروع الصهيوني. كما يلاحظ تسارع حركة الاختراق للساحة الافريقية، بشكل متناسق مع التموضع الصهيوني في الإقليم العربي، من اجل خلق وقائع ضاغطة على الخاصرة العربية. بما يفرضه ذلك من وعي أهمية الدور الإيراني في عملية المواجهة من ناحية، واهمية مواجهة المشروع الصهيوني في القارة الافريقية من ناحية ثانية، وربما كانت الجزائر أكثر البلدان العربية المؤهلة للتحرك في هذا الاتجاه في اللحظة الراهنة.
ختاما
لقد باتت المواجهة مع المشروع الصهيوني تدور على مستوى الإقليم العربي ومحيطه الإقليمي، بما يفرضه ذلك من انخراط واعي وشامل في المواجهة. ولان الاتفاق يشي بلحظة تحول نوعية واستراتيجية فلابد ان تكون المواجهة إيذانا بلحظة تحول نوعية واستراتيجية مضادة.