مقالات و دراسات

الممرات الاجبارية لمقاومة فلسطينية فاعلة ضد المشروع الصهيوني

عابد الزريعي
مدير مركز دراسات ارض فلسطين للتنمية والانتماء

كان الراحل جورج حبش قد وصف اللحظة التي تمر بها الثورة الفلسطينية المعاصرة ب “الهزيمة” التي قضى بقية عمره باحثا عن إجابة على سؤالها: ” لماذا هزمنا.؟”. ومنذ ذلك التاريخ وحتى اللحظة الراهنة، تفاقمت الأمور وتعددت محاولات الإجابة على ذات السؤال. محاولات الخروج المتكررة لم تخرج عن اتجاهين، اما التصويب على الانقسام من خندقين مختلفين، واما التصويب على اتفاق أوسلو من خندق واحد. مع القفز بطيعة الحال عن بديهية مفادها، ان الانقسام الحاصل هو نتاج لاتفاق أوسلو، الذي هو نتاج لمرحلة سبقته، وهي مرحلة طويلة تمد بجذورها في تربة الثورة الفلسطينية القديمة والمعاصرة، مع اختلاف بين من تولى تلك الجذور بالرعاية ــ حسب المرحلة ــ ودون الحفر في تلك التربة بفأس حادة وشرسة، سيكون الحديث عن إمكانية الخروج من المأزق، ناهيك عن اجتراح الشروط الموضوعية لمقاومة ناجعة، يفتقد الى النجاعة. وارتباطا بذلك ومن واقع تجربة اشتباك الشعب الفلسطيني مع المشروع الصهيوني لأكثر من قرن، يمكن القول ان الشرط الموضوعي لمقاومة فلسطينية ناجعة، يرتبط بثلاثية علاقة الوطني بالقومي، وبالموقف من القوى الامبريالية الداعمة للكيان الصهيوني، وبالشكل الرئيس للنضال الوطني. وبالنتيجة بكل ما يترتب على هذه القضايا وما ينسل عنها من برامج تفصيلية. هذا المقال محاولة لتبيان الفكرة المطروحة، ضمن العناوين الاتية:
أولا: الرؤوس الثلاثة للحركة الصهيونية:
هناك ثلاثة سمات رئيسة وحاسمة، من بين سمات الحركة الصهيونية الكثيرة والمحفوظة عن ظهر قلب، اول هذه السمات انها بنت وقدمت نفسها كحركة قومية “للشعب اليهودي”. بما يعنيه ذلك من انها لابد ان تكون أداة تفكيك وتفتيت قومي، للمحيط الجغرافي العربي المحيط والمرتبط بفلسطين، بسمته القومية التي تجعل منه عقبة في وجه المشروع الصهيوني. وثانيها انها اسندت رأسها وربطت صرتها بقوة امبريالية كشرط حياة، وهو امر يرتبط أيضا بالمصالح الامبريالية في المنطقة ذاتها، بما يعنيه ذلك من اعتمادية ووظيفية على قاعدة ارتباط الأهداف الخاصة بالأهداف الامبريالية العامة. وثالثها الركون الى القوة المسلحة كشرط مصير وبقاء في وسط محيط معادي. ومنذ بدايات المشروع الصهيوني وحتى اللحظة لم يغير الزمن شئيا في هذه السمات بل زادها وضوحا وبيان. فالتطبيع الجاري ليس الا وجها لتحقيق قوميتها في المركز، وممارسة التفكيك والهيمنة على المحيط. والارتكان الى الدعم السياسي والعسكري والاقتصادي الأمريكي، لم يتغير على مدى الزمن واخر تجلياته ضمها الى القيادة المركزية الامريكية في الشرق الأوسط، وعدوانها المتكرر في كل اتجاه، كما ان الامعان في التسليح لم يتوقف كتأكيد لاعتمادها على السلاح كمصير.
ثانيا: المتاهات الثلاثة للحركة الوطنية الفلسطينية:
السمات الثلاثة للحركة الصهيونية، لم تترك لحركة التحرر الفلسطينية مجالا، لرفاهية التفكير في البحث بين البدائل، فاذا اردت ان تواجه الوحش الصهيوني برؤوسه الثلاثة، فعليك ان تكون قوميا ومعاديا للإمبريالية، وسلاحك في يدك، وهذا حكم ضرورة وليس اختيار. فهل وعت الحركة الوطنية الفلسطينية ذلك.؟ قد يكون السؤال مضحكا، ولكن البحث في الأوراق سيجعل الجواب مبكيا. فقد تسرب الى صفوف قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية ومنذ البداية وهم النضال القطري والسلمي بالاعتماد على العرائض والقصائد، وتحييد أو توسيط الامبريالية البريطانية في الصراع. الى حد الاعتقاد ان بريطانيا، يمكن ان تمنح الفلسطينيين دولة، مثلما اوجدت في شرق الأردن امارة. ولم يتم التحرر من هذا الوهم الا ابان ثورة 1936، التي كانت تعبيرا عن الموقف والممارسة النضالية الشعبية أكثر من القيادة الرسمية، التي ركبت الثورة دون ان توفر لها اية مرتكزات تنظيمية صلبة يمكن ان تستند اليها للاستمرار. وخلال مسار الثورة الفلسطينية المعاصرة كان الوهم يطل برأسه بين فينة وأخرى، الى ان تبدى بشكل جلي مع تبني البرنامج المرحلي، في ظل ميزان قوى لا يسمح بإنجازه. الأمر الذي ترتب عليه خلال مسار طويل ثلاثة نتائج خطيرة، تتمثل في الميل التدريجي التراكمي باتجاه ابراز الوطني، وبطريقه انفعالية في كثير من الأحيان، وتبهيت القومي. الى ان عبر الوطني عن نفسه في اتفاق أوسلو أولا. وتبهيت العلاقة بين المشروع الصهيوني والقوى الامبريالية لينتهي الامر باللجوء لهذه القوى من اجل تحقيق الحقوق الوطنية التي اختصرت في دولة على حدود 1967 ثانيا. وتغليب العمل السياسي على النضال الكفاحي خاصة الكفاح المسلح الى ان تم الوصول الى انكار دوره واعتباره من منتجات زمن مضى ثالثا.
ثالثا: ثلاثة ممرات اجبارية لمقاومة ناجعة:
بديهي القول ان بناء مقاومة فلسطينية ناجعة وفاعلة، يستدعي بالضرورة المضي عبر الممرات الثلاثة المحددة، في الارتباط القومي، ومعاداة الامبريالية، والكفاح المسلح. لكن هذا التحديد العام لا يقود الى اية نتيجة مالم يرتسم على حدود واضحة وتفصيلية على الأسس الاتية.
1 ــالارتباط القومي: تتبدى اول الشروط الموضوعية لمقاومة ناجعة وشاملة، في الارتباط الحاسم مع المقاومة القومية للمشروع الصهيوني بالمعنى الاستراتيجي، وان كان الصراع يدور على المستوى القطري بالمعنى التكتيكي. خاصة وان اللحظة هي لحظة المواجهة القومية لهذا لمشروع، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. وذلك على الرغم من واقع التمزق والاختراق القائم على الصعيد القومي، والذي قد يعزز ظاهريا وجهة النظر المدافعة عن فكرة الانغلاق القطري. ذلك ان التموضع الصهيوني المنجز في أكثر من بلد عربي، جعل من المعركة ضد التطبيع معركة قائمة بالنسبة لكل فصائل حركة التحرر العربية ضد المشروع ذاته، ويأخذ الامر طابعا مصيريا بالنسبة للحركة الوطنية الفلسطينية، إذا وضعنا في الاعتبار انه في حال تمكن العدو الصهيوني من استكمال عملية الالتفاف والتموضع في المحيط الاستراتيجي لفلسطين، فسيتم محاصرة الحركة الوطنية الفلسطينية وخنقها. قد يقال ان من طبع لم يسبق له وشارك في الصراع وبالتالي فان خروجه لن يؤثر ولن يغير شيئا. مثل هذا الطرح تفنده حقائق التاريخ، فهؤلاء كانوا يوما جزء من المقاطعة العربية لإسرائيل، والتي منعتها من التمدد وحاصرتها داخل الجغرافيا الفلسطينية، خروج هؤلاء يعني تمدد الكيان ومراكمة أوراق قوة لصالحة، وبالنتيجة مزيد من الحصار للحركة الوطنية الفلسطينية. على ضوء ذلك فان المسألة القومية باتت وكما كانت في الأصل مسألة مصير ماثل لا مجال للهروب منه. وذلك يستدعي الانتباه أولا الى ان الصمود وتصعيد المنسوب النضالي الفلسطيني، على قاعدة وضوح في الموقف والرؤية السياسية، يشكل عامل انهاض لكل فصائل حركة التحرر العربية في مواجهة قوى التطبيع. وثانيا الى ان المعركة ضد التطبيع على الساحة العربية هي معركة مواجهة مع المشروع الصهيوني ومعركة فرز قوى، يترتب عليها عزل القوى الرجعية المنخرطة في التطبيع ومواجهتها، ولا يمكن للحركة الوطنية الفلسطينية الا ان تكون جزء من هذه المعركة.
2 ــاشكال النضال: الملفت للنظر ان الحركة الوطنية الفلسطينية باتت تمارس لعبة الاختباء خلف المصطلحات، كلما طرحت مسألة اشكال النضال، فيقال المقاومة الشعبية وكافة اشكال النضال … الخ. هناك من يحاجج ويقول حتى أصحاب الكفاح المسلح في غزة لا يمارسونه، ويخرجون من هدنة ليدخلوا في غيرها.. الخ. هذا صحيح، ولكن الصحيح أيضا، ان هناك معادلة قوة باتت غزة طرفا فيها، وهي تشكل قوة ردع فلسطينية وقاعدة محررة ـــ شبيهة بتجارب عديد حركات التحرر ـــ يجب عدم التفريط فيها او تبديدها بل تنميتها. الكفاح المسلح لحركة تحرر وطني ليست مشروطه بمئات المسيرات في السماء والاف الصواريخ والمدفعية التي تطلق النار صباح مساء.. الخ ولكن يمكن مواصلة القتال بوسائل ومستويات أخرى، وفي مواقع أخرى، وبأشكال عديدة ومتنوعة. وحتى نبسط الأمر أكثر. ماذا نسمي ما يقوم به المستوطنون من قلع أشجار وحرق وعمليات تخريب يوميه.؟ اليست شكلا من اشكال العمل المسلح.؟ الم تكن الممارسات النضالية لحركات التحرر في بداياتها بهذا الشكل.؟ الم تكن طلائع العمل المسلح من غزة في الخمسينات بهذا الشكل.؟ لذلك ما يقوم به المستوطنون ليس هياجا كما يوصف، وانما هناك من يديره ويشرف عليه من مستويات عليا من دولة الكيان. لذلك فان الاعتقاد بإمكانية مواجهة الكيان الصهيوني المسلح بالنضال الشعبي السلمي، ومن على منصات المؤسسات الدولية ليس أكثر من وهم. ان حسم المسألة باتجاه مواجهة العدو الصهيوني بذات النسق يستدعي أولا الحفاظ على قطاع غزة وحمايته كأرض فلسطينية محررة، بما يعنيه ذلك من الحفاظ على قدراتها العسكرية وتنميتها وعدم اهدارها، وتوفير الدعم الاقتصادي والحياتي الاجتماعي كأحد وسائل الحفاظ والحماية. وثانيا بناء مجموعات مسلحة قادرة على مواجهة المستوطنين في الضفة الغربية وقتالهم على ذات المستوى وبذات النسق، بما يمنع شعورهم بالراحة والاطمئنان. وثالثا بناء مجموعات حرب مدن صغيرة ومرنة، قادرة على إدارة الاشتباك المسلح داخل الكيان الصهيوني، ويمكن الاستفادة من تجربة أمريكيا اللاتينية في حرب المدن في هذا المضمار. ورابعا الاستمرار في المقاومة الشعبية وتطويرها، وفي هذا السياق إعادة مسيرات العودة مع الاستفادة من دروس التجربة السابقة.
3 ــ الموقف من أمريكيا: أمريكيا بوصفها الداعم الامبريالي الرئيس للكيان الصهيوني، هل هي عدو ام صديق ام وسيط، لابد من الخروج من هذه المتاهة على قاعدة وعي العلاقة بينها وبين الكيان. ذلك ان الانزلاق المتواصل في التعامل معها بوصفها وسيطا، الامر الذي دشنه الحوار الفلسطيني الأمريكي قبل اتفاق أوسلو بسنوات، يقود بالضرورة الى الدخول في المساومة حول الكفاح المسلح، والانغلاق الأكثر على الذات الوطنية، وبالنتيجة التحلل من كل إمكانيات الفعل مثلما هو حادث الان. لذلك فان التحرر من وهم المراهنة على داعمي الكيان الصهيوني، يسمح بوضع القوى الامبريالية في موقعها الصحيح بوصفها جزء من معسكر الأعداء. انطلاقا من ذلك يمكن الانطلاق نحو بناء علاقات تضامن نضالي مع قوى عديدة وفي مختلف الساحات تشكل حزام تضامني داعم للقضية الفلسطينية.
رابعا: من اجل اقتحام الميدان بثقة:
ان العبور الواثق للممرات الاجبارية الثلاثة يستدعي أسئلة واجابات من مستوى اخر. يستدعي أولا تحديد الوضع والوضعية التي انت عليها، بكل ما يتعلق بذلك من ممكنات القوة والضعف. وثانيا تحديد الرؤية والغاية التي تصبو اليها، بكل ما يتعلق بذلك من تحديد اهداف تريد تحقيقها ويمكن ان تحققها بالفعل وليس بالقوة. وثالثا تحديد من يقف معك ويناصرك ومن يقف ضدك وعليك، ومن يقف في المساحة الرمادية. ورابعا تحديد التكتيكات المعتمدة وخامسا ان تصوغ خطة العمل الواجب الاشتغال على هديها.
خاتمة
ان الارتباط القومي والشكل النضالي والموقف من الامبريالية ليست شكلا من اشكال الرفاهية الفكرية للنضال الوطني الفلسطيني، بقدر ماهي قضية حياة ومصير، ترتبط به الشروط الموضوعية لمقاومة فاعلة وناجعة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق