مقالات و دراسات

الذكرى الثالثة والسبعون للنكبة وتحولات الحركة الوطنية الفلسطينية

عابد الزريعي

مدير مركز دراسات ارض فلسطين للتنمية والانتماء

يعود الفضل للعلامة ابن خلدون في طرح فكرة ان التاريخ كتاب للعبر. ومن أكثر عبره التي يقدمها ويمن بها على الشعوب بوصفهم فاعليه الرئيسيين، تلك التي تأتي علة هيئة توافقات بين مناسبات سابقة وقديمة، ومسطورة في ثناياه، واحداث جارية في اللحظة والتو، وفي طريقها كي تصبح تاريخا. الأمر الذي يجعل منها عبرة مجسمة وحية. تقوم بدور المحرض للشعوب وتمنحها الفرصة للاستمرار في الفعل التاريخي بما ينسجم وامالها واحلامها. ويمكن القول بثقة ان من بين أكثر هذه التوافقات وضوحا وجلاء، حلول الذكرى الثالثة والسبعون للنكبة، كحدث ماضي، في رحاب الهبة التاريخية التي يعيشها الشعب الفلسطيني كحدث جارى. هذا التوافق يستحق التوقف من زوايا عديدة، سنتناول من بينها عنوانا واحدا يتعلق بالتحولات الجارية على الحركة الوطنية الفلسطينية بفعل حدث الماضي الذي يتكرر حضوره كل عام، وحدث اللحظة الجاري والمتجسد في الفعل الشعبي القائم. ضمن العناوين الاتية:

أولا: النكبة في لحظتها الاولى 1948:

شكلت النكبة التي حلت بالشعب الفلسطيني والعربي عام 1948 في بعدها الاول تشظيا للحقيقة الوطنية الفلسطينية بكافة مستوياتها. فعلى المستوى الجغرافي، انقسم الوطن الفلسطيني الى ضفة مضمومة الى الاردن، وقطاع مدار من قبل مصر، وأرض محتلة صارت “دولة اسرائيل”. وعلى المستوى الديمغرافي، تناثر الشعب الفلسطيني على ذات المزق الجغرافية، مضافا اليها شتات في دول الطوق العربي امتد بعد ذلك ليشمل الكرة الارضية. وعلى المستوى الاقتصادي، لم يعد هناك ما يمكن تسميته بالمعنى العلمي اقتصادا فلسطينيا، وان كانت هناك فعاليات او مشاريع اقتصاديه يديرها فلسطينيون. وعلى المستوى الثقافي، وفي ظل التقسيم الجغرافي والتناثر الديمغرافي، لم يبق من خيط ناظم، الا خيط التراث الشعبي الساكن في عمق الوجدان والذي يعبر عن نفسه في هذا التجمع في تلك الجغرافيا او ذاك، مؤسسا لوحدة افتراضية غير مجسدة بالمعنى الواقعي الملموس، ومثقفون لم يسلموا من واقع الجغرافيا والديمغرافيا القائمة، راحوا يحفرون في الصخر من اجل اعادة لملمة تلك الحقيقة وجدانيا على طريق اعادة تجميعها عمليا. وعلى المستوى السياسي، لم تعد اية صيغة سياسية جامعة وممثلة وقادرة على تجميع الشتات الحاصل. وشكلت في بعدها الثاني ايذانا بدخول الوطن العربي في مرحلة معقدة من التجزئة المتنامية والتبعية المتفاقمة للقوى الامبريالية، واعاقة للتطور والتنمية، وذلك رغم محاولات الخروج الرائدة التي كانت وانتهت نتيجة ضغط القوى الامبريالية وادواتها الرجعية في المنطقة وقاعدتها المتقدة ” اسرائيل” العنوان الرئيس لتجسد حدث النكبة.

ثانيا: تحولت الحركة الوطنية الفلسطينية ما بين اللحظتين:

كانت الحركة الوطنية الفلسطينية المتشكلة في ظلال النكبة أي ما بعد اعام 1948، هي الفعل العملي الاكثر حضورا من اجل الغاء مفاعيل النكبة، والمتصدي لإنجاز الشق الاول من شعار حركة التحرر العربية وهو تحرير الارض المغتصبة. وعلى مد 73 عاما من هذا الفعل باستثناء سنوات الركود والتبلور يمكن رصد مجموعة من التحولات التي مرت بها وتتلخص فيما يلي:

1 ــ بين القومي والوطني: عاشت الحركة الوطنية الفلسطينية في بداياتها تجاذبين فكريين بين القومي والوطني، ذهب الاول باتجاه الاعلاء من المسألة القومية في المواجهة الى حد تمييع الوطني، وذهب الثاني بالاتجاه الوطني الى حد تمييع القومي. وفي نهاية المطاف حسمت العلاقة بين الاتجاهين لصالح الثاني. وذلك لم يكن نتيجة لجدل فكري حاصل وحاسم، وانما نتيجة للسبق في اعلان الكفاح المسلح من قبل الاتجاه الوطني، على الرغم من ان الخط الاول قد مارسه قبل ذلك التاريخ ولكنه أضمر الاعلان عنه. ارتباطا بذلك لم يكن الالتفاف الجماهيري حول الخط الثاني والانفضاض عن الاول نتيجة لرؤية أو موقف فكرية بقدر ما كان توقا لشكل محدد من الممارسة العملية. ومع تحول الجزء الرئيس من الخط القومي نحو اليسار، تعمق الميل الوطني من ناحية وبات سائدا على ارضية حالة من الضبابية الفكرية العامة. حتى عبر عن نفسه بخطه الرئيس في شعار “يا وحدنا” الذي قاد بدوره الى “الشعار الفلسطيني المستقل” الذي انتهى الى التسوية المستقلة، ومأزق اتفاق اوسلو بكل النتائج المترتبة عليه.

2 ــ بين الاستراتيجي والمرحلي: التحول الثاني الذي مرت به الحركة الوطنية الفلسطينية، كان الانتقال الفجائي من الهدف الاستراتيجي الذي رفعته بعد عام 1967، والمتمثل في تحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني، الى الهدف المرحلي بعد عام 1973، والمتمثل في بناء الدولة على أي جزء يتم تحريره. علما ان هذا الشعار كان يتسلل بهدوء في اوساط حركة فتح، المتزعمة للاتجاه الوطني، ويحفر عميقا في داخلها، وان كان اخراجه الى النور قد ترك لفصيل يساري كان ينتمي الى التيار القومي. خطورة هذا الانتقال انه كان معزولا من الناحية الموضوعية عن موازين القوى، التي يمكن ان يتحقق من خلالها، وان تكون محصلته بناء قاعدة للتحرير لمواصلة النضال من اجل الهدف الاستراتيجي. هذا الانعزال جعل من العملية التفاوضية هي السبيل الوحيد لإمكانية تحقيقه، فكان الركض وراء مؤتمر جنيف والمؤتمر الدولي على فرضية توفر تلك الامكانية، مؤتمر جنيف والمؤتمر الدولي، وبالنتيجة المراهنة على القوى ذاتها التي اوجدت الكيان الصهيوني، الامر الذي ترتب عليه انشقاقات عميقة في الساحة الفلسطيني، ومسار تخبط للطرف المهيمن الى ان انتهى الامر الى ذات النقطة اتفاق اوسلو.

3 ــ بين النضال المسلح والشعبي: ثمة خطان تميزت بهما الحركة الوطنية الفلسطينية خلال مسارها المعاصر. اولا كان الكفاح المسلح الذي وسم انطلاقتها بعد عام 1967 واستمر بأشكال ومستويات متعددة، وثانيها النضال الجماهيري الشعبي الذي جرى بمستويات مختلفة بين الصعود والهبوط، ولكنه شكل محطات حاسمة، وتحديدا انتفاضة يوم الارض 30 مارس 1976 ، والانتفاضة الاولى عام  1986، والانتفاضة الثانية عام 2000، ومن بين هذه الانتفاضات الشعبية شكلت الثانية محطة لإثارة الجدل حول الشكل النضالي ، وظهرت اصوات تنادي بالمقاومة الشعبية، كبديل للكفاح المسلح، الخسائر المترتبة عليه، نتيجة لعدم التكافؤ بين القوى حسب منطقها، ليتحول الامر بعد ذلك  الى ادانه علنية او ضمنية، بل وسخرية من النضال المسلح. هذا التوجه لم يستطع الغاء او منع الكفاح المسلح، ولكنه اضاف ارباكا اخر الى العقل النضالي الفلسطيني.

5 ــ بين الداخل والخارج: شكلت مسألة الداخل والخارج احد اهم تحولات الحركة الوطنية الفلسطينية، التي تجسد حضورها بعمليات عسكرية من خارج حدود فلسطين، سمة رئيسة جعلت الداخل الفلسطيني ملحقا نضاليا، لتاتي الانتفاضة الأولى وتضع الداخل في مقدمة الفعل والممارسة النضالية، مع استفراد الخارج بالقيادة، الذي سعى مبكرا الى توظيف الانتفاضة بشكل مبكر في مشروع سياسي، أعاد الخارج القيادي الى الداخل، ليبقى ممسكا بالقرار، بينما همش الخارج الفلسطيني بشكل يكاد يكون كليا، يضاف الى ذلك تهميش جزء رئيس وهو فلسطينيي 1948، ارتباطا بالصيغة المترتبة على اتفاق أوسلو والمحددة بالسلطة الفلسطينية.

ثالثا: النكبة في لحظتها الثالثة والسبعون 2021:

تمثلت لحظة التوافق التاريخية النادرة ليس فقط بحلول الذكرى الثالثة والسبعون للنكبة في رحاب الهبة الكبرى التي تشهدها فلسطين، بل في ان دروس الهبة المستخلصة حتى اللحظة تجيب بشكل ضافي على كل إشكاليات التحولات التي شهدتها الحركة الوطنية الفلسطينية منذ عام 1948، بل انها تقوم بعملية استعادة تاريخية لما قبل لحظة تشتت الحقيقية الوطنية الفلسطينية الناتج عن فعل النكبة. لنجد أنفسنا مرة واحدة امام ديمغرافيا وجغرافيا فلسطينية واحدة، يحيط بها حزام قومي جماهيري فاعل، يتناسق فيها الفعل الشعبي والعسكري، وبالنتيجة يستعيد الاستراتيجي حضوره مرة أخرى وبشكل حاسم.

خاتمة

لقد أسست لحظة التوافق التاريخية بكل ما تنضوي عليه من معاني ودلالات سياسية، محطة مناسبة لمراجعة تجربة، ووفرت كل الإمكانات لاندفاعة ثورية فلسطينية جديدة، على الطريق الضامن لمن يسير عليه ان يحاصر النكبة في حدود الذاكرة ويلغيها من الواقع.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق