سيف القدس يفك القطبة المخفية في تسريب برنامج التجسس”بيغاسوس”الاسرائيلي
عابد الزريعي
مدير مركز دراسات ارض فلسطين للتنمية والانتماء
شكل تسريب المعلومات المتعلقة ببرنامج التجسس الاسرائيلي “بيغاسوس” الذي صممته شركة “إن إس أو” (NSO) مادة دسمة للكتابات والتحليلات التي عقدت ومازالت حول الموضوع. ويركز هذا المقال على الزوايا التي تم تسليط الضوء عليها، في سياق محاولة التقاط الاسباب الدافعة، والاهداف المرتجاة من ذلك التسريب. كما يحاول الاجابة على السؤال المتعلق بالمستفيد من هذا التسريب والاهداف الحقيقية الكامنة، وذلك ضمن مجموعة من العناوين الفرعية.
اولا: التسريب وطريقة التناول:
اتسمت اغلب النقاشات الدائرة حول القضية المطروحة، بتقاطعها عند ثلاثة زوايا تستدعي التوقف، كونها تمثل مرتكزات يمكن الاستناد اليها في الفهم الشامل للموضوع، وتتمثل هذه الزوايا فيما يلي.
1 ـــ الانبهار: ان اغلب ما يتم طرحه يستند الى حالة من الانبهار بالبرنامج وقدراته، وذلك من خلال التركيز على الذين تم اختراق هواتفهم بشكل عام وهم بالآلاف. ومن تم اختراق هواتفهم بشكل خاص من رؤساء دول وسياسيين كبار واصحاب شأن، وشخصيات عامة وازنة، ومعارضين سياسيين. ومن ناحية ثانية التركيز على القدرات الخاصة بالبرنامج، الذي لا تقف في طريقه اية موانع إذا اراد اصحابه ذلك، والى جانب ذلك الاشارة الى الخدمات والقدرات التي تكتنزها الشركة المنتجة.
2 ـــ الحيرة: ان اغلب تلك الكتابات والحوارات تتقاطع عند سؤال، يتعلق بسبب التسريب، ولماذا الان، ومن يقف وراءه، وهل الامر يتعلق بقدرات صحفي استقصائي، ام ان هناك من يقف خلف هذا الصحفي، سواء بشكل مباشر او غير مباشر.؟ تطرح هذه الاسئلة دون اجابات محددة وانما تبقى معلقة كعلامة استفهام كبرى، مغلفة بالضبابية، ومحاطة بالحيرة، التي تصب في نهاية المطاف في خانة الانبهار.
3 ـــ التسويق: تكاد تكون اغلب تلك المقالات والحوارات، قد دخلت في عملية ترويج وتسويق مجاني لصالح البرنامج، بفتحها شهية مستهلكين يقبعون في الظلال، وتحدوهم الرغبة في الحصول على الفوائد التي يقدمها هذا البرنامج، من دول واجهزة وغير ذلك. عملية الترويج والتسويق هذه تتم بوعي عند البعض وبعدم وعي عند اخرين، لاسيما وان الامر يتعلق بالمتابعة الاعلامية والتغطية لحدث هز العالم وأيقظه من سبات.
ثانيا: من سرب.؟ ومن استفاد.؟
التسريب سواء كان اشاعة او حقيقة مثله مثل الجريمة، للوصول الى الفاعل لابد من البحث عن المستفيد. وإذا نظرنا الى المسألة من ثلاثة زوايا:
1 ـــ صاحب البرنامج، الذي يبدو للوهلة الاولى انه الخاسر الاول، نتيجة لانكشاف البرنامج عليه ملايين الدولارات، ويمكن تحديده بشكل اولي في الشركة الاسرائيلية التي انتجب البرنامج وتتولى تسويقه وبيعه.
2 ـــ مستخدمي البرنامج، وهم مستويات متعددة. وتتبدى خسارتهم في انكشاف وسائل التجسس على شعوبهم بالنسبة لأنظمة قمعية، وعلى شعوب العالم بالنسبة لأنظمة وقوى امبريالية، كون البرنامج يعفيها من الانغماس بشكل مباشر في المهمة.
3 ـــ المستهدفين من البرنامج، وهم الضحايا الذين يستحقون الشفقة. وقد حررهم اكتشاف البرنامج من وقوعهم في نطاق المتابعة من قبل الانظمة التي تهددهم.
وإذا كان البرنامج بكل هذه القدرات والمواصفات، فمن البديهي، الا يتمكن صحفي استقصائي من الوصول اليه، لأنه يملك من اليات الحماية ما يكفي، اضافة الى انه معني بحماية زبائنه. وبالنتيجة فان أي عملية تسريب وبهذا المستوى، لا يمكن ان تتم الا بتواطؤ مع صاحب البرنامج أي مع الطرف الاسرائيلي بالتحديد. الذي يبرز بوصفه المستفيد الوحيد من العملية بالرغم من ملايين الدولارات التي تبددت. والتي كانت بالنسبة لإسرائيل مصاريف دعاية لكي تعود الى الواجهة الامنية، بوصفها صاحبة القدرات التي لاتحد والتي يمكن الاعتماد عليها في هذه الناحية.
ثالثا: لماذا التسريب.؟
يمكن للمتابع ان يضع يده على مفتاح السؤال من خلال العودة الى المقابلة الشهيرة التي اجرتها س. ن. ن الامريكية بتاريخ 24 يناير 2016 وادارها فريد زكريا اهم محرري القناة. في تلك المقابلة قال نتنياهو: “هناك تغيير حقيقي، يتمثل بمغازلة إسرائيل وكونها دولة يتم السعي وراءها”. وهنا طرح عليه فريد زكريا السؤال الاتي: لماذا تأتي هذه الدول إلى إسرائيل.؟ وكانت اجابة نتنياهو: “ان التشدد الإسلامي والإرهاب يجعل الجميع في حالة من الانزعاج، والبعض في حالة من الخوف، ليسألوا أنفسهم حينها: “مَن يستطيع مساعدتنا في هذا المجال؟ إسرائيل تملك الاستخبارات والموساد والخبرة العملياتية أو قواعد البيانات اللازمة. السبب الثاني: التطور الالكتروني: يرمي إلى اغتنام فرص المستقبل. إن التغيير الأكثر دراماتيكية يتمثل بالطبع بالعلاقات الناشئة بين إسرائيل وغالبية جيراننا العرب، لغرض تمكيننا من صياغة الشرق الأوسط منطقة محررة من سيطرة التشدد الإسلامي.” ومن المفيد الانتباه الى ان هذه الاجابة الرسمية تتقاطع مع عشرات الدراسات والابحاث التي تروج لقدرات اسرائيل في التحكم وتحليل “البج داتا” وامكانياتها غير المحدودة في هذا المجال. الذي تعتمد عليه في تعميق علاقاتها مع عديد الدول، وتكريس التطبيع مع بعض الدول العربية الخليجية المبهورة، بالقدرات الاسرائيلية في هذه الناحية.
رابعا: سيف القدس يعري غطاء بضاعة فاسدة:
كشفت معركة سيف القدس عن حقائق عديدة حول قدرات اسرائيل، لكن الاهم انه كشف تهاوي نظريتها للأمن القومي والقائمة على التنبؤ الاستراتيجي، والردع، والحرب الاستباقية، والقتال في أرض “العدو” بعيدا عن الجبهة الداخلية. كما عرت أزمة العقل السياسي والعسكري والاستخباراتي الاسرائيلي. والذي يهمنا في هذا المقال هو الجانب الاول لأنه يرتبط في جوهره بالقدرة على الحصول على المعلومات باي شكل كانت. لقد اكدت معركة سيف القدس فشل استراتيجية التوقع والتنبؤ الاستراتيجي. الامر الذي وصفته الباحثة في مركز هرتسيليا، ليراز مرغليت، بجريدة معاريف، قائلة: “كلمة واحدة تصف شعور الإسرائيليين هي المفاجأة.” وتتبدى ملامح المفاجأة في الفشل في متابعة تطور قدرات المقاومة. والفشل في اختراق شبكة اتصالاتها، بما ترتب عليه من فشل في تتبع قادتها، وتحديد بنك اهداف دقيق. والفشل في توقع قرارها بالمبادرة بالهجوم. والفشل في تقدير الموقف المتخذ تجاهها في الوقت المناسب. ان كل عناصر الفشل المشار اليها، تتعلق بفشل فاعلية الادوات المتمثلة في الاختراق الالكتروني، من توفير المعطيات والمعلومات اللازمة، وهي المسألة التي لم تكن موضعا للشك من قبل أي طرف، الى ان جاءت معركة سيف القدس لتفضح وتكشف ان اسرائيل التي سوقت نفسها كقوة إقليمية متميزة، وتملك قدرات أمنية فائقة تمكنها من الحصول على المعلومات، وتحليلها وتوقع النتائج والقيام بإجراءات الحماية اللازمة. وروجت لبضاعتها هذه في الخليج العربي ولدى دول التطبيع، وبين عديد الدول، كانت تروج بضاعة زائفة وتدعي قدرة غير موجودة. الامر الذي سيتعكس سلبا على تسويق صورتها الامنية. وسيدفع حلفائها للسؤال حول قدرتها على القيام بدورها ومهمتها الوظيفية في المنطقة. لاسيما وإنها تسوق نفسها دائماً بأنها الحارس الأمين لمصالحهم بالشرق الأوسط. وقد استشعر تسفي هاوزر رئيس لجنة الشؤون الخارجية والدفاع بالكنيست الإسرائيلي هذه الانعكاسات، ورأى انها توجه ضربة قوية لمكانة إسرائيل كقوة إقليمية. ويضر بقدرات الردع الإسرائيلية.
على ضوء ذلك لم يكن امام اسرائيل لإعادة تلميع صورتها على هذا المستوى، بوصفها صاحبة القدرات الاستخبارية غير المحدودة، الا ان تضحي بنموذج فرعي، تستخدمه كوسيلة ايضاح جزئية، لقدراتها الكلية. وفي هذا السياق تم التضحية عن طريق التسريب بالشركة المنتجة للبرنامج، وإذا وضعنا في الاعتبار ان مثل هذه الشركات لا يمكن ان تقوم بمعزل عن التقاطع مع اجهزة الامن الرسمية، نستطيع ان نستنتج بان الامر لم يكن معقدا، ولا يحتاج الى قدرات خاصة حتى يتم الاختراق والتسريب، فالأمر لم يتجاوز القرار الرسمي والترتيب مع ادارة الشركة لإنجازه. وتحويل عملية المتابعة للتسريب ومتعلقاتها الى شكل من اشكال الترويج التجاري، والاشهار لصالحها، لاسيما وان التداعيات الذهنية للمتلقى ستدور في اطار سؤال: اذا كانت هذه امكانية الشركة، فماذا عن امكانية وقدرات الدولة.؟ وغير ذلك من المقارنات الذهنية والنفسية.