التطبيع خيانة. ولكن لماذا.؟
عابد الزريعي
مدير مركز دراسات ارض فلسطين للتنمية والانتماء
بات شعار «التطبيع خيانة” شعارا جامعا وموحدا لكل الافراد والقوى المنخرطة في رفض التطبيع ومقاومته. وبات وسما ثابتا وموحدا للحملات الالكترونية المضادة للتطبيع والمطبعين، بكل ما ينطوي عليه الوسم من دلالات ومعاني اخلاقية سلبية. وعلى الرغم من اهمية واساسية هذه المسألة الا ان تكرارها والاكتفاء بمعناها السلبي المباشر، دون التحديد الدقيق والواضح لأسباب هذه السلبية، ومحدداتها الواضحة، قد يجعل من الشعار على المدى الطويل شكلا من اشكال التمائم التي يرددها الانسان بشكل الي دون ان يدرك معناها من ناحية، ودون ان يعي الاعمال الواجب عليه القيام بها لدرء هذه الخيانة التي لا تلطخ صاحبها فقط، وانما تطال من يقاومها او يرفضها رفضا سلبيا ايضا. وهذا المقال محاولة للتحديد الدقيق للمعني الذي ينطوي عليه شعار التعبير خيانة، بما يترتب على ذلك من ضرورة صياغة اشكال العمل من اجل درء هذه الخيانة ومنعها من الانتشار. وفي هذا السياق يترتب عن أي عملية تطبيع، وبشكل مباشر، بناء صور ذهنية عن الصراع ومجرياته وتداعياته في وعي المتطبع، ثم تقوده هذه الصور رغما عنه، الى القبول بالأيديولوجيا المنتجة للمشروع الصهيوني، وبترجمته على ارض الواقع، والتغاضي عما يتعرض له الشعب الفلسطيني. والتكيف مع الأهداف التي مازالت مدرجة على جدول اعمال الحركة الصهيونية، ويتلخص ذلك في ستة مترتبات هي:
أولا: ــ الاضفاء: اضفاء الشرعية على ما لاشرعية له.
اضفاء صفة الطبيعية على واقع سابق لم يكن طبيعيا، ومناقض لمبدأ العدالة. وهو بذلك لا يعيد الامور الى طبيعتها وانما ينقض هذه الطبيعة. وبذلك يقر بان وجود اسرائيل في قلب الوطن العربي هو وجود طبيعي، ويعترف بكينونتها كدولة شرعية، تتمتع بكامل السيادة التي تخولها إقامة علاقات مع نظيراتها من الدول، وعدم التعامل معها على أنها دولة احتلال أو كيان مغتصب. (ابوطربوش:13/9/2017) فالإقرار يعني الاعتراف بشرعية الكيان الاستعماري الاستيطاني الصهيوني المسمى «إسرائيل»، وشرعية مشروعه، والتعاطي معها على أنها جميعها أمر طبيعي. وبالنتيجة يتعامل المتطبعون، سواء على مستوى الحكومات، او الافراد، والجماعات مع إسرائيل، كجزء طبيعي من الشرق الأوسط، ويتجاهلون دورها في التطهير العرقي والجرائم المستمرة ضد الشعب الفلسطيني. (Dana:1-6-2017) والشعوب العربية.
ثانيا: ــ الانكار: انكار حق الشعب الفلسطيني في المقاومة.
يقود الاضفاء والاقرار الى انكار ما حل بالشعب الفلسطيني وبالمنطقة، جراء الوجود غير الشرعي لإسرائيل. بما يترتب على ذلك من حرمان شعوب المنطقة حقها في أرضها، وفي تكوين خياراتها الحرة. (الشولي:20ــ2ــ2013) وكذلك انكار الحق في مقاومة الاحتلال، بما يترتب عليه من اعتبار المقاومة تصرفا غير طبيعي؛ لأنها تحارب ما تم تطبيعه وصار طبيعياً. فالمتطبع لا يهدف إلى مقاومة أو فضحِ الاحتلال، وكلِّ أشكالِ التمييز والاضطهاد الممارس على الشعب الفلسطينيّ. وبذلك يلغي الحق التاريخي للأمة العربية والاسلامية في فلسطين والأراضي العربية المحتلة.
ثالثا: ــ المخالفة: مخالفة أسس القانون الدولي.
مخالفة الشرائع القانونية الدولية، فاذا كان التعريف القانوني للتطبيع، يقوم على “العودة إلى العلاقات الطبيعية بين الدول”. فان الانتقال في العلاقات بين الطرفين (المتنازعين) من مرحلة العداء إلى مرحلة طبيعية، تنتفي فيها حالة التناقض أو الحرب، وتقوم على أساس المصالح المتبادلة وحسن الجوار والتعاون. يصطدم في الحالة المعنية بثلاثة قضايا:
1 ــ أن دولة “إسرائيل” لم تكن موجودة أصلاً قبل خمسين سنة حتى تدعو الدول المجاورة إلى إعادة العلاقات معها إلى طبيعتها.
2 ـــ ان “العلاقات الطبيعية” في هذه الحالة هي ذات طابع مستقبلي، يسمح لإسرائيل النيل من الحقوق الطبيعية المستقرة للدول ولمجتمعاتها، لأنها تفرض عليهم شروطاً، على المستويات الاقتصادية والأمنية والسياسية والإعلامية والثقافية. دون أن يكلفها هذا التطبيع شيئا. (حماد:12ــ11ــ1999)
3 ــ يتصادم مع القانون الدولي، في نصه على حق الشعوب في تقرير مصيرها، وتحرير اراضيها من الاحتلال.
رابعا: الدعم: دعم “اسرائيل” وتغطية جرائمها.
تتمثل النتيجة المترتبة على الاقرار والانكار والمخالفة، في ان المتطبع يوفر قاعدة دعم واسناد لإسرائيل على اربعة مستويات:
1ــ إطلاق يدها في ارتكاب الجرائم ضد الشعب الفلسطيني والشعوب العربية. ودائما كانت هناك علاقة طردية بين التطبيع وارتفاع معدل الجرائم الصهيونية، لذلك كانت اسرائيل ترد على كل مبادرة او خطوة تطبيع بمزيد من الغطرسة. فبعد كامب ديفيد عام 1979، شنت الحرب على لبنان عام 1982، وبعد اوسلو زادت من بناء للمستوطنات الإسرائيلية، والاعتقالات والسطو على الأراضي. على ضوء ذلك فان المتطبعين يندرج عليهم الاتهام بالمشاركة في ارتكاب جرائم ضد الانسانية؛ لأنهم يساعدون اسرائيل كمجرم أساسي بتوفيرهم الظرف المناسب للقيام بجرائمها. (خلف:2ــ4ــ2019)
2 ـــ تراجع الموقف التضامني الدولي مع القضية الفلسطينية. فقبل اتفاقية اوسلو كان كل ممثلين الدول العربية يقاطعون المندوب الاسرائيلي، عند القاء كلمته، وينسحبون من الجمعية العمومية في الأمم المتحدة، ومعهم كثير من مندوبي الدول الاسيوية والافريقية. لكن التطبيع أنهي هذا الموقف التضامني العالمي، ولم يعد مندوبي تلك الدول معنيين بالأمر، بل ان دولهم باتت بدورها تعيد علاقاتها وترتبها مع اسرائيل. (خلف:2ــ4ــ2019)
3 ـــ تحقيق مكتسبات على جبهة الصراع الإيديولوجي. فبعد ان تمكن العرب وحلفائهم من انتزاع قرار من الجمعية العمومية يعتبر الصهيونية حركة عنصرية، تم الغائه بموافقة العرب كثمن لمؤتمر مدريد. وقد ارتبط بذلك الغاء الجلسات التي كانت تعقد في المؤتمرات الدولية، مثل مؤتمر العمل الدولي في جنيف، للمقارنة بين اسرائيل ونظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا. وكذلك العمل على تكييف المناهج الدراسية بما يتوافق ومصلحة اسرائيل، بما يعنيه ذلك من تقويض حضاري وتدمير ثقافي لأجيال قادمة. وكذلك تسطيح الوعي بالصهيونية كحركة عنصرية.
4 ــ توفير الظروف لمحاصرة حركة المقاطعة وتقويض جهودها. وفي هذا الصدد يتم توظيف التقدم في عملية التطبيع في مواجهة حركة المقاطعة في الساحة الدولية. ويلخص أحد الباحثين الاسرائيليين هذه المسألة بالقول: “إن الأمر الذي نستطيع تحقيقه اليوم بغطاء أميركي، وبمساعدة أوروبية، وبتأييد دولي وبموافقة من معظم العالم العربي، ليس مضموناً في المستقبل. عملية كهذه ستحسن مكانة إسرائيل في العالم وتعطي مصداقية بأنها تسعى إلى السلام، وتعزز مطالبها للأمن، وتوقع ضربة قاصمة بأولئك الذين يقومون بحملة مقاطعة وعدم شرعية لإسرائيل”. (غيل:11ــ12ــ2014)
خامسا: ــ التعطيل: تعطيل وارباك قوى محور المقاومة.
ان التطبيع وبقدر ما يفتح المجال لإطلاق اليد «الإسرائيلية» في الواقع العربي، ويمكنها من اقامة الأحلاف التي تعمل لمصلحتها، وتسقط القضية الفلسطينية من اجندتها، فان الوجه المقابل لهذه العملية هو اجبار محور المقاومة على التحوّل من القتال من اجل استعادة الحقوق الفلسطينية، إلى واقع الدفاع عن النفس على شتى الصعد الوجودية والكيانية والسيادية والأمنية. (حطيط:11 ــ 3 ــ 2021)
سادسا: ــ المصادرة: مصادرة حق الاجيال القادمة في التحرر.
ان التطبيع يصادر حق الاجيال القادمة في شق طريقها نحو مستقبل أفصل. فجريمة التطبيع لا تتوقف تأثيراتها على الجيل الحاضر، بل تقطع الطريق على الجيل القادم، وتمنعه من التقدم بثقة نحو التحرير والتحرر من التبعية والنهوض بالأمة. ذلك لأن التطبيع بكسره لحاجز العداء النفسي مع الصهاينة، يعمل على تدجين الأجيال القادمة وتزييف وعيها وتغييبه، من خلال غسل الدماغ بواسطة البرامج الإعلامية، ومن خلال مناهج التعليم التي تتعرض للتعديل الدائم، بهدف اجتثاث كل معاني الانتماء إلى الأمة العربية والإسلامية وعقيدتها ومقدساتها وقضاياها الحرة والعادلة. (فطافطة:7ــ10ــ2020) وبالنتيجة دفعها للتسليم بالهزيمة التاريخية امام الكيان الصهيوني.
هذه المترتبات الستة بكل ما تحمله من مضامين ودلالات اخلاقية وسياسية هي التي تجعل من شعار ” التطبيع خيانة” وصمة عار على جبين كل من انخرط في مسار التطبيع، ودعوة للنضال والفعل لكل من اختار موقف الرفض للتطبيع، بهدف نقل هذا الموقف من خانة التعبير الى خانة التدبير.