تنزيل مفهوم القومية والأمة على التجربة التاريخية والراهنة لحركة التحرر العربية
عابد الزريعي
مدير مركز دراسات أرض فلسطين للتنمية والانتماء
بات مفهوم القومية والأمة حاضرا بكثافة في الجدل والنقاش السياسي، وذلك ارتباطا بالأحداث العاصفة التي تمر بها المنطقة العربية، خاصة بعد بدء ما يسمى بثورات الربيع العربي. وعلى الرغم من اهمية حضور التعريف القاموسي في مثل هذه النقاشات، الا ان اتخاذها كمقياس مجرد تحاكم على أساسه مختلف القضايا، يقود غالبا الى الخروج عن حدود الموضوع المعالج، بل والهدف الأصلي من هذه المعالجة، والمتعلق بانطباق تلك التعريفات من عدمها على واقع المنطقة، وبمعزل عن وقائع التطور التاريخي الذي شهدته. ذلك ان المفهوم خاصة السياسي والاجتماعي، المعزول عن سياقه التاريخي ليس له معنى محدد ضابط. انه يشبه اللفظة المفردة في اللغة، التي وان دلت على شيء الا ان معناها يبقى رجراجا وغير محدد، الى ان توضع في سياق محدد، أي في جملة، عندها ينضبط المعنى وتتكشف دلالاته، ومعانيه بوضوح. وجملة المفهوم السياسي او الاجتماعي هي السياق التاريخي الذي يندرج فيه، وخارجه يبقى دلالة عامة، لا ننكر فائدتها ولكنها فائدة غير مكتملة. وذلك لأن دلالة المفهوم ستتغير بالضرورة حسب الأمة التي يقاس عليها وتجربتها التاريخية.
أولا: تعريف اولي لمفهوم القومية والأمة والدولة:
تستدعي عملية التعريف الانتباه الى ثلاثة مفاهيم متلازمة، وهي مفهوم القومية والأمة، والدولة ــ الأمة. هذه المفاهيم الثلاثة يستدعي كل منها الاخر، بحيث ان أي منها يفقد قيمته العملية إذا تم تناوله بشكل مجرد. وبداية يمكن تعريف القومية بانها نسق من الأفكار والنظريات السياسية والحقوقية والدينية والأخلاقية والجمالية والفلسفية، ونظام سياسي واجتماعي واقتصادي. يتحدد بالظروف المادية لحياة مجتمع من المجتمعات في مرحلة تاريخية من مراحل تطوره. ويرتكز هذا المفهوم على مجموعة من العناصر الأساسية، تتمثل في وحدة اللغة والتقاليد والتاريخ المشترك، بدلالاته الماضوية والمستقبلية، للمجموعة البشرية المكونة لذلك المجتمع. ومن الناحية التاريخية فتعود نشأته الى أواخر القرن الثامن عشر. ثم اتخذ معناه الأكثر تحديدا خلال القرن اللاحق. وذلك في سياق مرحلة الانتقال من التشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية الإقطاعية إلى التشكيلة – الاقتصادية الرأسمالية، وهي الفترة التي شهدت تشكل الدول الرأسمالية القومية. أما بالنسبة لمفهوم الامـــــــــــــة فهو أكثر اتساعا من مفهوم القومية. كونه يشير الى بنية اجتماعية يتحقق فيها وبموجبها امتداد الأجيال المتعاقبة لمجموعة بشرية، ودوام روابطها الاقتصادية والثقافية والحضارية والجغرافية، ومصالحها الثابتة والمشتركة. بما يعنيه ذلك من استمرارية التكوين الجمعي المتراكم من الماضي السحيق إلى الحاضر والمستقبل. وبذلك تتبدى الأمة كبنية وصيرورة تاريخية، للعلاقة بين الأرض والجماعة.
وبذلك تنتظم العلاقة بين المفهومين، كانتظام العلاقة الجدلية بين الشكل والمضمون، فالأمة هي المضمون الموضوعي المتحقق في الوقائع التاريخية، فيما تتبدى القومية كشكل للوعي بالأمة. يتلخص هدفه في تعزيز مصالح الأمة، والحفاظ على ثقافتها. ويتأتى ذلك من خلال دولة القومية أو الدولة الأمة التي تتجسد في منطقة جغرافية محددة، وتستمد شرعيتها السياسية من تمثيلها لآمة أو قومية مستقلة وذات سيادة. فاذا كانت الدولة عبارة عن كيان سياسي وجيوسياسي، ودولة القومية عبارة عن كيان ثقافي. فان مصطلح “دولة القومية” يفيد التقاء وتوافق السياسي والجيوسياسي مع الثقافي والاثني معا.
ثانيا: تنزيل التعريف في سياق التاريخ
تنزيل التعريفات السابقة على الواقع العربي المحدد يترتب عليه مجموعة من الاستنتاجات تتلخص فيما يلي:
أولا: الامة العربية هي حصيلة ونتاج التراكمات التاريخية لكل الحضارات السابقة، بأبعادها الثقافية والاقتصادية، التي بناها الانسان وتجسدت كوقائع ملموسة على هذه الأرض، بمحدداتها الجغرافية المعروفة، والتي تتسم بالتواصل والانفتاح. على ضوء ذلك يبرز مفهوم التنوع ضمن الوحدة، وليس بديلا لها. كما يتبدى الزيف العلمي لمقولات من نوع (الأمم والقوميات العربية المختلفة)
ثانيا: ــ ان ظهور القومية العربية كحركة تحرر واستقلال قومي، من نير الإمبراطورية العثمانية تحت لواء الثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف حسين. كان من الضروري ان يقود الى تشكل او قيام دولة الأمة العربية. أو الدولة القومية العربية الواحدة. المستوعبة للتعددية والتنوع، بما يعنيه ان عروبتها ذات دلالات ثقافية أكثر من كونها ذات طابع عرقي.
ثالثا: ــ ان التوافق التاريخي لظهور القومية العربية كحركة تحرر قومي، مع الانقضاض الامبريالي على المنطقة، بهدف تقاسم تركة الإمبراطورية العثمانية، او كما كانت تسمى في حينه بالرجل المريض. قد وضع الحركة القومية العربية في مأزق تاريخي، تعمق بتحالفها مع الطرف الامبريالي الذي يرتهن تحقيق مشروعه، بمنع استكمال حركة التحرر العربية، لمهمتها في استيلاد وبناء دولة الامة العربية، وخلاصها من نير الإمبراطورية العثمانية.
رابعا: ـــ ان اتفاقيات سايكس بيكو كأداة تقسيم، لم تكن أداة تقسيم لدولة عربية موجودة، وانما أداة تقسيم لممتلكات امبراطورية منهارة، وبالنتيجة أداة منع ميلاد الوارث الحقيقي في الجغرافيا ذاتها أي تشكل دولة الامة العربية. والمفارقة الصارخة في هذا الجانب ان المجتمعات الأوروبية التي كانت خاضعة للإمبراطورية العثمانية، قد تمكنت او تم تمكينها من بناء دولها القومية بعد تفكيك الإمبراطورية العثمانية، بينما وضعت العراقيل امام حركة التحرر العربية لمنعها من تحقيق هدفها.
خامسا: ــ ان أداة سايكس بيكو كانت تمهد لأداة أخرى، وهي وعد بلفور لتتوافق الاداتان لميلاد الدولة القطرية العربية من ناحية، وإسرائيل من ناحية أخرى، والتي أوكلت لها مهمة الاستمرار في منع تشكل دولة الامة العربية. وبالنتيجة بقاء الدول القطرية، التي تشكل كل منها جزء مقتطع من الدولة الام، بتكويناته وتعدديته العرقية والثقافية. والتي يتم الاشتغال عليها من قبل القوى الاستعمارية ذاتها، لتعميق عملية التفتيت والتقسيم، وإيجاد الموانع الحاسمة في منع التشكل التاريخي للدولة الامة. وذلك بتقسيم وتفتيت المكونات الأساسية للدولة القطرية الوطنية.
ثالثا: تنزيل التعريف في سياق الحاضر والمستقبل
ان التحديات التي واجهتها حركة التحرر العربية، في مرحلتها الأولى، تعيد انتاج نفسها امام حركة التحرر العربية في صيغتها المعاصرة، مضافا اليها متغيرات عديدة، وتعقيدات جديدة، لعل أهمها ان صيغة التقسيم الأولى، قد تحولت الى واقع تحميه مصالح قوى وطبقات اجتماعية، تشكلت في ضوء ذلك التقسيم، وارتبطت مصالحها به، وفي دفاعها عن هذه المصالح، ارتمت في أحضان القوى ذاتها التي انتجت التقسيم، وتحولت بذلك الى عامل إعاقة محلي شديد الخطورة. الامر الذي يستدعي مزيد التعمق في وعي الواقع وكيفية ادارة الصراع مع كل قوى الإعاقة. ذلك يعني ان حركة التحرر العربية في بناء تصوراتها ونضالها، من اجل بناء الدولة القومية الموحدة، كهدف استراتيجي، لابد ان تقوم على اساس المشاركة في بناء مشروع مثل هذه الدولة. بما يعنيه ذلك من عدم استخدام العروبة كمرادف للقومية العربية. فالأولى انتساب مجرد عن المعنى السياسي، والثانية حركة وعي سياسي وأيديولوجي نضالي؛ لتحقيق اهداف واضحة ومحددة، تتعلق بمصير الامة، بما تتضمنه من تنوع. لاسيما وان التكوين العرقي والاثني للمنطقة في جوهرة تكوين تعددي. وذلك ارتباطا بالعمق التاريخي والمدى الجغرافي للدولة الأمة المبتغاة. ومن الملاحظ ان هذه التعددية باتت مستهدفة الان، ليس بهدف التفتيت فقط، وانما لإنتاج صورة مشابهة، لصورة الكيان الصهيوني المزروع رغما في جغرافية المنطقة. لذلك فان حركة التحرر العربية كبنية نضالية منوط بها ان تؤطر كافة الشرائح والقوى الممثلة لها، وتمكنها من التوحد على مشروع نضالي جامعن مستند الى تاريخ مشترك ويتطلع الى مستقبل مشترك أيضا، مشروع وعي جمعي تاريخي، يؤسس لتحقيق دولة الأمة على المدى الاستراتيجي. وذلك لا يتناقض مع المهام المدرجة على جدول اعمال كل فصيل من فصائل حركة التحرر العربية، على المستوى القطري، إذا ما توفر الوعي بضرورة الانتباه الدائم، الى إيجاد العلاقة الجدلية بين ما هو لازم قطريا بحكم الواقع القائم، وما هو لازم قوميا بحكم الواقع الهدف.
قراءات المقال
1 ــ حدادين، جورج: 19/2/2016 ـــ الأمة والقومية
https://maysaloon.news
2 ــ بدران، نزار: 28/1/ 2021 ـــ مفهوم الأمة القومية
https://www.alquds.co.uk
3 ــ مطر، سليم: 12/3/2012 ـــ الامة والقومية.. ما الفرق بينهما: نعم هنالك امم وقوميات عربية مختلفة! الحوار المتمدن-العدد: 3665 – 2012 / 3 / 12 –
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=298803
4 ــ ويكيبيديا، الموسوعة الحرة
https://ar.wikipedia.org/wiki
5 ــ محادين، موفق: 26/2/2012 ــــ الأمة هي بنية والقومية هي ايدولوجيا
https://www.almadenahnews.com/article/