مهام فلسطينية عاجلة في ظل المتغيرات الدولية المواكبة للمواجهة الروسية الأطلسية
عابد الزريعي – مدير مركز دراسات ارض فلسطين للتنمية والانتماء
دخل الوضع الدولي والإقليمي مرحلة جديدة، ارتباطا باندلاع المواجهة العسكرية بين روسيا وحلف الناتو عبر وكيله الاوكراني، الامر الذي جعل من أوكرانيا مسرحا للعمليات العسكرية الجارية. هذه المرحلة تختلف في تفاصيلها ونتائجها عن تلك التي اعقبت انهيار الاتحاد السوفييتي، بما ترتب عليها من تسيد الولايات المتحدة الامريكية على العالم من خلال نظام الأحادية القطبية. في كونها تفتح الافاق المستقبلية امام لاعبين وقوى دولية متعددة. وفي مثل هذه اللحظات العاصفة في السياسة الدولية، تدخل مختلف الدول في عملية حساب سياسي استشرافي من اجل ان تحدد المكان الذي تقف عليه لحظة التسويات النهائية. وبما ان القضية الفلسطينية كانت الأكثر ارتباطا على مدى التاريخ الإنساني بالأوضاع الدولية المتغيرة، فان أسئلة عديدة تستدعي الطرح ومن بينها: هل يمكن ان تقود المواجهة القائمة الى تغيرات في النظام الدولي.؟ وإذا حدث ذلك فهل يمكن ان تجد القضية الفلسطينية مساحة أوسع للتنفس والحركة.؟ وإذا وجدت المساحة هل الوضع الفلسطيني قادر على الاستفادة منها.؟ وقبلهما السؤال الأساسي: هل هناك استعداد فلسطيني للتفكير فيما هو قادم.؟ ومن اجل الإجابة الضمنية على هذه الأسئلة يستدعي الامر عملية استعراض مكثفة لعلاقة القضية الفلسطينية بالأوضاع الدولية، لاسيما وأنها باتت تمثل عاملا ثابتا في هذه العلاقة. ومحاولة تحديد ملامح المتغير الدولي الراهن، ومدى انعكاسه على العامل الثابت. وتحديد آليات وشروط تكيف العامل الثابت (الفلسطيني) مع المخرجات الايجابية للعامل المتغير الإقليمي والدولي.
تتلخص العناصر الرئيسة للخلفية التاريخية للقضية الفلسطينية في ثلاثة وثائق يصعب فهم مسار التاريخ الفلسطيني قبل عام 1948 بمعزل عنها. وتتمثل في اتفاقية سايكس ــــــ بيكو 16 مايو 1916 التي بموجبها فصلت فلسطين جغرافيا وديمغرافيا عن الجسد العربي بشكل عام وعن سوريا بشكل خاص. وإعلان بلفور 2 نوفمبر 1917 الذي حدد هدف عملية الفصل في تحويل الجغرافيا الفلسطينية إلى دولة يهودية والديمغرافيا المعزولة إلى مجموعة من الطوائف ـــــ حسب النص ـــ على طريق التخلص منها بإعادة توزيعها في جغرافيات متعددة. وصك الانتداب الذي وضع موضع التنفيذ في 29 سبتمبر 1923. وتولت بريطانيا بموجبه وبتكليف من المجتمع الدولي القيام بالخطوات العملية اللازمة لتنفيذ ما جاء في الوثيقة الثانية. وارتباطا بهذه الوثائق وجد الشعب الفلسطيني نفسه مضطرا للتكيف مع نتائج الاتفاقية الأولى، وفي حالة صراع ونضال ضد الاستحقاقات المترتبة على الاتفاقيتين الثانية والثالثة. لكنه لم يستطع أن يفشل تلك الاستحقاقات لينتهي الامر بهزيمة عام 1948.
لقد ترسمت القضية الفلسطينية على مدى تاريخها، كعنصر ثابت في الساحة الدولية يكاد لا يتغير، في الوقت الذي يتغير كل ما حولها. وكان الوضع الدولي المعاكس أحد عناصر ثباتها وعدم حلها بما يتفق وحقوق الشعب الفلسطيني. لقد برز الوضع الدولي كعقبة عامة تعبر عن نفسها من خلال الموقف المعادي للقوى الامبريالية التي تحكمت في النظام الدولي إلى حد كبير. الامر الذي يتبدى في المراحل المتعاقبة التي مر بها النظام الدولي والتي تتلخص فيما يلي:
1 ـــ مرحلة الهيمنة الاستعمارية الكلية: تميزت بهيمنة الدول الرأسمالية الامبريالية المؤيدة في غالبيتها للحركة الصهيونية خاصة الامبريالية البريطانية. والتضييق الشديد والاستهداف المباشر للشعب الفلسطيني. وخلال هذه المرحلة تشكلت العناصر الرئيسة للخلفية التاريخية للقضية الفلسطينية، وتمثلت في ثلاثة وثائق يصعب فهم مسار التاريخ الفلسطيني قبل عام 1948 بمعزل عنها. وتتمثل في اتفاقية سايكس ــــــ بيكو 16 مايو 1916 التي بموجبها فصلت فلسطين جغرافيا وديمغرافيا عن الجسد العربي بشكل عام وعن سوريا بشكل خاص. وإعلان بلفور 2 نوفمبر 1917 الذي حدد هدف عملية الفصل في تحويل الجغرافيا الفلسطينية إلى دولة يهودية والديمغرافيا المعزولة إلى مجموعة من الطوائف ـــــ حسب النص ـــ على طريق التخلص منها بإعادة توزيعها في جغرافيات متعددة. وصك الانتداب الذي وضع موضع التنفيذ في 29 سبتمبر 1923. وتولت بريطانيا بموجبه وبتكليف من المجتمع الدولي القيام بالخطوات العملية اللازمة لتنفيذ ما جاء في الوثيقة الثانية. وارتباطا بهذه الوثائق وجد الشعب الفلسطيني نفسه مضطرا للتكيف مع نتائج الاتفاقية الأولى، وفي حالة صراع ونضال ضد الاستحقاقات المترتبة على الاتفاقيتين الثانية والثالثة. لكنه لم يستطع أن يفشل تلك الاستحقاقات لينتهي الامر بهزيمة عام 1948. وما ترتب عليها من قيام ” إسرائيل” وطرد وتشريد الشعب الفلسطيني.
2 ـــ مرحلة الهيمنة الاستعمارية الجزئية: وتبدت في تراجع قوى الاستعمار القديم، وقيام نظام الثنائية القطبية بعد الحرب العالمية الثانية، والذي قاد قطبيه كل من الولايات المتحدة الامريكية من ناحية، والاتحاد السوفييتي من الناحية الثانية. بما ترتب على ذلك من توازنات جديدة على الصعيد الدولي. وخلال هذه المرحلة انطلقت الثورة الفلسطينية المعاصرة. واتخذ النضال الفلسطيني مسارا متعرجا يتراوح بين الانفتاح والانغلاق على ضوء المساحات التي يمنحها هذا التوازن لحركات التحرر الوطني.
3 ــــ مرحلة الهيمنة الامريكية الشاملة على النظام الدولي، والتي تبدت في نظام الأحادية القطبية، وتحددت ملامحها بانهيار الاتحاد السوفييتي نهاية التسعينات. وقد ترتب على ذلك عودة الفضاء الدولي للانغلاق من جديد وبشكل شديد على النضال الفلسطيني. وخلال هذه المرحلة تم توقيع اتفاق أوسلو، واتفاقية وادي عربة. وذلك في سياق التسوية الذي هيمنت عليه الولايات المتحدة.
ومن الملاحظ ان السمة العامة على المستوى الدولي كانت تسير بشكل غير متوافق مع طموحات الشعب الفلسطيني. وإذا نظرنا إلى انغلاق الأفق الدولي أمام النضال الفلسطيني من زاوية المشاريع والمبادرات التي قدمت لحل القضية الفلسطينية، لوجدناها تتسم بسمتين: الاولى عدم استجابتها لحقوق الشعب الفلسطيني. والثانية عجز المجتمع الدولي او عدم رغبة قواه الامبريالية على تنفيذ تلك القرارات والمشاريع، إذا كانت تستجيب ولو بالحدود الدنيا لحقوق الشعب الفلسطيني، او تتعارض مع المصالح الاسرائيلية.
لقد انتقل مسار المتغيرات الدولية من حالة التراكم الكمي الذي تبدت في عديد المواقع خاصة دول البريكس الى مستوى التبدل النوعي. الأمر الذي جعل مسألة انتقال العالم من نظام الأحادية القطبية الى نظام دولي متعدد القوى والأقطاب أمرا محسوما. وقد جاءت المواجهة الروسية مع الحلف الأطلسي على ارض أوكرانيا، لتفتح المجال لبدء ترسيم هذه اللحظة التاريخية، وهو الامر الذي أشار اليه المسئولون الروس بشكل واضح. ذلك لا ينفي ان الولايات المتحدة الامريكية ستحاول الاستثمار الى الحد الأقصى في الأزمة الأوكرانية، وهو الامر الذي يفرض على القيادة الروسية التنبه له بشكل جيد. وذلك من اجل ضمان استمرارية سريان عملية التغير بدون مربكات قد تبطئ من سرعتها، ولكنها لم تعد قادرة على منع تقدمها. ان كل خطوة الى الامام في هذا المسار ستفتح بالضرورة افاقا أوسع امام النضال الوطني الفلسطيني، الذي سيجد نفسه أمام مجال أرحب، نتيجة لأهمية الدور الروسي والصيني تجاه القضية الفلسطينية. خاصة وان روسيا ستحرص على إثبات حضورها على المسرح الدولي بشكل عام وقضايا الإقليم بشكل خاص، في مواجهة حملة العزل التي تقودها الولايات المتحدة ضدها. ان التعامل الفلسطيني مع لحظة الانعطاف الدولية الهامة تستدعي العمل المباشر والتحرك على ثلاثة مستويات هي:
1 ــ فلسطينيا: التوجه نحو انهاء الانقسام وبناء وحدة وطنية انطلاقا من الوعي بضرورة مراكمة القوة الذاتية، والخروج من أوهام التسوية والانفكاك من ربقة اتفاق أوسلو. واتخاذ كل الاحتياطات لمنع وتخفيف التداعيات الاقتصادية للحرب المترافق مع الوضع الاقتصادي الصعب، لتوفير الحد اللازم للصمود في هذه المرحلة. وتصعيد المقاومة الفلسطينية بمختلف اشكالها وعلى كل الجبهات، لكبح محاولة إسرائيل الاستفادة من الوضع القائم بتشجيع هجرة يهود أوكرانيا وروسيا، بما يترتب على ذلك من توسيع وتكثيف للاستيطان. وكذلك للضغط على المهاجرين، ليتأكدوا بأنهم اختاروا العنوان الخطأ لهجرتهم.
2 ـــ عربيا: التحرك من اجل العمل على بناء موقف عربي لمحاصرة مسعى اسرائيل لتوسيع مساحة دورها وحضورها الإقليمي في ظل المتغيرات الدولية، بالاستفادة من التطبيع والخلل في موازين القوى على المستوى العربي. وفي محاولة لجني الثمار لحظة صمت المدافع على الجبهة الأوكرانية، واتضاح صورة الوضع الدولي بشكل جلي. وذلك يستدعي التسريع ببناء جبهة عربية شعبية لمقاومة التطبيع، والتحرك على المستوى العربي الرسمي بشكل عام، وعلى قوى محور المقاومة بشكل خاص لبناء تصور موحد يضمن الاستفادة الكلية من المتغير الدولي.
3 ــ دوليا: التقدم نحو اختراق حالة الصمت التي باتت تحيط بالقضية الفلسطينية، نتيجة التركيز المتعمد من قبل عديد القوى اعلاما وحكومات على ما يحدث في أوكرانيا. وإعادة القضية الفلسطينية الى موقعها وحضورها على المنصات الإعلامية والملفات الدولية. وذلك بالتنسيق مع حركة المقاطعة لتصعيد نضالها خاصة في الساحة الاوربية، وشن حملة دولية مطالبة بتنفيذ قواعد القانون الدولي، وضد المعاير المزدوجة المتبعة حيال مختلف القضايا، والتطبيق الانتقائي للقانون الدولي، وقرارات الأمم المتحدة. والمباشرة بتشكيل وفد لزيارة روسيا لما له من دلالة ومعنى في هذه اللحظة التاريخي.
ان اللحظة التاريخية لا تحتمل التردد والانتظار والمراهنة على ما يمكن ان يجود به القدر، خاصة ونحن في مواجهة عدو متمرس امتلك خبرة لا يستهان بها على مستوى اقتناص لحظات التحولات التاريخية في اختيار تموضعه واصطفافه، ودعم قواه الذاتية.