مقالات و دراسات

الثورات الشعبية العربية بين الشعارات الصحيحة والحصاد المرير

عابد الزريعي

مدير مركز دراسات ارض فلسطين للتنمية والانتماء

مر عقد من الزمن على الاحداث التي دخلت القاموس السياسي باسم الثورات الشعبية العربية، وباسم الحراك الشعبي، وباسم ثورات الربيع العربي، وباسم الشتاء العربي، وهو عنوان كتاب للكاتب الأمريكي نوا فيلدمان، وغير ذلك من التسميات. ذلك لا يكشف عن بذخ في اللغة، وانما عن خلاف واختلاف في توصيف المضامين، وفي تعريف تلك الاحداث على مستوى بداياتها وما انتهت اليه. ومن اجل الوصول الى إجابات تنضوي على حد مقبول من المعقولية، على سؤال ماذا ترتب على تلك الاحداث، وبغض النظر عن الاسم او التوصيف الذي يطلق عليها، بعد عشرة سنوات. ؟، يستدعي الامر الانضباط الى محددات ضابطة. تتمثل في الاعتماد على عنصري التمايز بين تلك الاحداث. والمقارنة بين أهدافها والنتائج الى انتهت اليها. وهذا المقال محاولة مختصرة لذلك.
أولا: السلسلة ذات الحلقات المتمايزة:
اندلعت تلك الاحداث في فترة زمنية متقاربة، وانتقلت من بلد الى اخر، بداية من تونس ثم مصر، ومن بعدها ليبيا واليمن والبحرين وسورية. مع ارهاصات لم تدم طويلا في كل من عمان والمغرب. هذا التواصل عزز القول بان العالم العربي، قد دخل مرحلة الثورات الشعبية التي تنتظم احداثها كسلسلة متواصلة ومتناسقة الحلقات. لكن واقع الحال يؤكد ان حلقات هذه السلسلة، وان كانت متواصلة في المسار الزمني، الا انها تتمايز عن بعضها البعض، وذلك على الرغم من كل محاولات التركيز على انها من ذات المعدن وبنفس مستوى الاستدارة. فما جرى في تونس ومصر والى حد ما في اليمن والبحرين، يختلف لأسباب كثيرة عما جرى في ليبيا وفي سورية بشكل خاص. كما يختلف فيما انتهى اليه الوضع على مدى السنوات المتعاقبة أيضا.
ان مبعث الاختلاف يرتكز على حقيقة منهجية مفادها، ان كل حدث تاريخي له وجهان رئيسي وثانوي، الأول يعكس جوهره، ويتسم بالاستمرارية، ويتحرك بفعل العوامل الذاتية لبيئته. ووجه اخر ثانوي متقطع، ولا يؤثر في توجيه الحدث وسمته الرئيسة الا بشكل نسبي. لكنه وبفعل تدخل عوامل خارجية تجعل منه وجها رئيسا. فكل هذه الثورات رفعت شعار السلمية كوجه رئيسي لها، وهو شعار يتناسب مع الأهداف المعلنة. واستمر ذلك الشعار هو الضابط في تونس ومصر واليمن على الرغم من وجود السلاح والبحرين على الرغم من شراسة النظام، بينما تم دفع هذا الشعار جانبا ومنذ الأيام الأولى في كل من سورية وليبيا، ليصبح الطابع المسلح هو الوجه الرئيس، وبإمكانيات تسليحية لا يمكن ان يحوزها متظاهرون سلميون بين يوم وليلة، والتفاصيل اللاحقة باتت معروفة وموثقة في هذا المجال. اذن نحن امام نمطين، الأول سلمي داخلي ذاتي، والثاني مسلح وتدميري وبترتيب خارجي. كما ان التمايز لا ينفي وجود قواسم مشتركة، تتلخص في مطلب وشعار الحرية والكرامة بمعناها الشامل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، خاصة لدى قطاعات الشباب والطبقات الوسطى التي انسحقت بفعل التغيرات والازمات الاقتصادية، تحديدا في لحظات البداية، لكن الية إدارة المشترك، شعارا وتمويلا ونوعية القوى المحلية والخارجية التي تدعمه، وحدود وعي المنخرطين في اشتغاله، يجعله وبالضرورة يكشف عن تميزه رغم المشترك مع غيره.
ثانيا: شعارات صحيحة وحصاد مرير.
لقد انعكست الأسباب المحركة في الشعارات والمطالب التي نادى بها المشاركون في تلك الاحداث، وانتظمت اغلبها في شعار “خبز حرية كرامة وطنية”. “عيش. حرية. عدالة اجتماعية”. وسلمية. سلمية. من حيث إدارة تلك الاحداث من قبل المنخرطين فيها. فهل توفر الخبز والحرية والكرامة الوطنية، اخذين بعين الاعتباران الحصاد لا ينحصر على مستوى الجزئي في هذا البلد او ذاك، وانما يشمل الكلي الذي يتجاوز الى العالم العربي برمته. ونبدأ من الكلي الى الجزئي.
1 ــ احتكار القرار العربي من قبل دول الرجعية العربية، المرتهنة للقوى الامبريالية، والتي باتت تعمل كأدوات ضغط لتفريغ النجاح النسبي لبعض الثورات الشعبية من مضامينها. وذلك نتيجة لتمزيق ليبيا واليمن، وتخريب سورية واستبعادها من المؤسسات الإقليمية العربية.
2 ــ فتح الباب للتطبيع مع الكيان الصهيوني، الذي باتت القوى الرجعية تمارسه على أساس انه قرار سيادي. مستفيدة من اقصاء القوى الفاعلة على المستوى الإقليمي وارباكها، وفي هذا السياق لم تكن عملية التدمير والاقصاء، الا وسيلة وتهيئة لمضي تلك الأنظمة نحو الارتماء في أحضان الكيان الصهيوني.
3 ــ ان الدول المسيطرة على القرار الرسمي العربي، وبحكم أموالها وتكليفها من قبل القوى الامبريالية باتت تستغل حالة الضعف الاقتصادي التي تعاني منها الدول التي شهدت تلك الثورات، للتدخل في شؤونها الداخلية والضغط عليها لجرها نحو التطبيع مع العدو الصهيوني.
4 ــ ان البلدان التي قطعت شوطا نحو الديمقراطية. باتت تعيش ارتباكا ديمقراطيا، الامر الذي اوجد حالة من عدم الاستقرار السياسي، بما يهيئ الظروف للتدخل في أوضاعها وجرها الى مستنقعات التطبيع. وذلك نتيجة لحالة الانفصال القائمة بين الحريات الفردية والسياسية، والوضع الاجتماعي والاقتصادي. او نتيجة لمصادرة الحريات السياسية ومعها لقمة الخبز.
5 ــ دخول البلدان فيما يشبه الازمة الاقتصادية المستدامة، والتي زادتها جائحة كورونا تعقيدا، والمترافقة مع كثافة التحركات المطالبة بحقوق اجتماعية واقتصادية. وبشكل باتت الازمة تنتج حراكا والحراك ينتج ازمة، بحيث صار المخرج لدى أصحاب القرار هو طرق باب صندوق النقد الدولي، والقبول بشروطه المعروفة.
6 ــ ظهور بوادر ومؤشرات لحراك عربي جديد شمل ساحات جديدة، ولكن القراءة المدققة للشعارات المرفوعة غير الواضحة والقوى والجمعيات المشاركة، واغلبها من أوساط اجتماعية متضررة وغير منظمة، بات يكشف عن مستوى جديد للتدخل في بعض البلدان العربية، لأخذها نحو خيارات سياسية قاتلة، وما حدث في السودان يمثل مؤشرا في هذا الاتجاه. الامر الذي يفرض على القوى السياسية مسؤوليات ثقيلة وتاريخية.
ثالثا: دروس تونسية شاخصة على لوحة الايضاح.
الدروس المستخلصة من تجربة الثورات الشعبية بشكل عام ومن التجربة التونسية بشكل خاص كثيرة ولكن هناك درسان يمكن الاستفادة منهما، للتسلح للمستقبل، خاصة وان كل المؤشرات تقول بان الساحات العربية باتت متهيئة لاستقبال اندفاعة جماهيرية جديدة.
1ــ ثورات بلا عضلات: مضى الحراك التونسي عام 2011 على وقع لاءات ثلاثة انخرطت قوى عديدة محلية وإقليمية ودولية في التبشير بها وتردادها، وتتلخص في ان السمة الرئيسة والعبقرية الفريدة للثورة، انها شبابية بلا قيادة ولا أيديولوجيا ولا تنظيم. وهو التوصيف الذي تم تعميمه على بقية الساحات. وأصبحت هذه الصيغة الوصفية، هي الصيغة المفضلة على المستويين الإعلامي والثقافي، والأكثر استساغة في أوساط الشباب المشارك في تلك التحركات. وجاءت النتيجة لتنسف هذه الاطروحة من جذورها، ومفادها ان حركة النهضة، وهي القوة الأكثر تنظيما وأدلجة وقيادة كاريزمية، على الأقل بالنسبة لأعضائها. هي التي استطاعت الهيمنة على صناديق الاقتراع طوال عشرة سنوات. بينما تفرق الشباب على الاف الجمعيات الممولة خارجيا في اغلبها، والتي تم الاعتماد عليها لضرب فكرة الحزب. والاعتماد على الشبكات لضرب فكرة تحالف القوى السياسية وبناء الجبهة الوطنية.
2ـــ العدالة الانتقالية والرغبة الانتقامية: قامت عملية ترتيب الوضع الداخلي بعد الثورة على فكرة العدالة الانتقالية، المؤسسة على وضع اليات للمصالحة بين الثورة وبقايا النظام السابق، في جنوب افريقيا بعد سقوط نظام الفصل العنصري. وعلى الرغم من خصوصية الوضع هناك، الا انه تم استنساخها من قبل مؤسسات ومنظمات دولية، واسقاطها على الواقع التونسي، لتجد مجالها المناسب في ظل نهم بعض القوى السياسية لتعزيز صفوفها من عناصر التجمع الدستوري المنحل، خاصة حركة النهضة والحزب الديمقراطي الذي كان يعتقد انه يقف على باب استلام السلطة بدعم من هذه العناصر. لقد ترتب على ذلك عودة التجمع الدستوري بقوة الى المشهد السياسي، وتصدر الواجهة الى جانب حركة النهضة وفي مواجهتها، على حساب عديد القوى القومية واليسارية التي تراجعت بشكل كبير وملحوظ.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق