مقالات و دراسات

الكورونا على الجبهة الفلسطينية حرب مختلفة

د. عابد الزريعي/مدير مركز دراسات أرض فلسطين للتنمية والانتماء

بعد ان تجاوز وباء الكورونا الحدود الصينية، سادت فكرة مفادها ان العالم بات متحدا في مواجهته بوصفه خطرا يهدد الإنسانية جمعاء ويوحدها. ووجدت الفكرة سندها في خارطة الانتشار الجغرافي والاستهداف الاجتماعي، خاصة وان الوباء لم يعد يفرق بين بلد وبلد وشخص واخر مهما كان دينه او لونه او بلده، فقيرا كان او غنيا. لكن التدقيق في مستوى ردود الأفعال واليات حماية الذات وخطوط التقاطع بين مختلف بلدان العالم ينفي هذه الاطروحة، الامر الذي يتأكد من خلال رصد مجموعة من الوقائع الأولية ومن بينها، عدم تحرك العالم عندما كان الوباء يتجول في ووهان الصينية، بل رأى فيه البعض مدعاة للتندر والشماتة. وكذلك في محاولة أمريكيا بعد انتشار الوباء عالميا، تسميته بالفيروس الصيني كوصمة عار تاريخية، قبل ان يتم لجمها والاتفاق على تسميته بكوفيد 19. ثم عودتها لشن ما يشبه الحرب الإعلامية على الصين في محاولة لتحميلها وزر جائحة الكورونا. وكذلك في انقسام العالم في الوعي بضرورة المواجهة الإنسانية الشاملة، فبينما هبت الصين وروسيا وكوبا لمد يد العون لدول منكوبة، قامت أمريكيا بتشديد الحصار ومنع وصول المساعدات على دول أخرى. وعملت على الاستفادة منه لتصفية حساباتها مع إيران وفنزويلا وسورية وذلك بتشديد الحصار وفرض العقوبات. وقامت بوقف دفع حصتها في تمويل منظمة الصحة العالمية في وقت حساس وحرج. وكذلك في حالة المزاحمة بين الدول على انتاج اللقاح، فلم نشهد حتى اللحظة تشكيل فريق أبحاث عالمي موحد يعمل معا لإنقاذ البشرية. الامر الذي يؤكد ان الجميع يشن حربا على الكورونا، ولكن كل من موقعه وتضاريس مصالحه وأهدافه السابقة واللاحقة. اما على الجبهة الفلسطينية فلم يكن الامر يستدعي انتظار تصريح سمير جعجع الداعي لفرض الحصار على المخيمات الفلسطينية في لبنان، بوصفها ــ حسب قناعاته ــ مصدرا للوباء، ولا كاريكاتير جريدة الجمهورية اللبنانية التي جعلت من المقاومة الفلسطينية وباءا يتساوى مع الكورونا، حتى يكتشف ان الحرب على الكورونا تدور على جبهة مختلفة وذات خصوصية.
ان خصوصية الجبهة الفلسطينية في مواجهة الكورونا، تكاد تكون الوجه المقابل لخصوصية القضية الفلسطينية، وجبهة الشعب الفلسطيني المشتعلة دوما في مواجهة الاحتلال الصهيوني. وتتبدى ملامح هذه الخصوصية في مواجهة الشعب الفلسطيني للوباء على جبهة متسعة تكاد تغطي الكرة الأرضية. بدءا من ارض فلسطين التاريخية التي تتقاسمها ثلاثة مواقع جغرافية غير متصلة من الناحية الإدارية، بما يعنيه ذلك من خضوع كل مجموعة من الشعب الفلسطيني الى اليات إدارية ومنظومات قانونية واليات ضبط تختلف عن بعضها البعض. فالمواجهة تبدأ من الشتات حيث يعيش جزء كبير من الشعب الفلسطيني خارج نطاق اية تغطية اجتماعية او ضمان صحي، يسمح له بالاستفادة من الخدمات الطبية والمساعدات الاقتصادية التي تقدمها البلدان المضيفة لشعوبها في مواجهة الوباء. وتمتد الى قطاع غزة الخاضع لحصار طويل في الزمان والمجال من قبل العدو الصهيوني، بكل ما يترتب على ذلك من تأثير سلبي على امكانية التزود بالمواد اللازمة لمواجهة الوباء. الامر الذي يعزز قائمة المخاطر التي يتعرض لها الناس، في ظل الضائقة الاقتصادية وضعف البنية التحتية التي باتت واقعا متجسدا في القطاع، كنتيجة مباشرة للحصار المفروض من قبل الكيان الصهيوني. وتواصل امتدادها الى الضفة الغربية حيث تتواجد الإدارة المركزية للسلطة الفلسطينية كصيغة معلنة بينما تبقى منطقة مباحة لجيش الاحتلال وللمستوطنين ليفعل بها ما يشاء. كما تشمل المناطق المحتلة عام 1948 حيث يخضع الناس للتمييز في المعاملة في كل ما يتعلق بإدارة الكيان الصهيوني للازمة المترتبة على استفحال وانتشار الوباء.
وإذا كان الانتشار المفاجئ والسريع للوباء قد كشف عن نوع من الهشاشة التي يعيشها الشعب الفلسطيني في مواجهة جوائح بهذا المستوى والتعقيد، كنتيجة لتشتته وعدم امتلاكه لشخصيته الدولية بسبب الاحتلال الصهيوني، وليس لضعف وقدرات ابناءه الذين سقط منهم الكثير على خط الدفاع الأول ضد الوباء في بلدان مختلفة. الا ان هذه الهشاشة تعبر عن نفسها بشكل أكثر وضوحا وقسوة تحديا لدى فئتي الاسرى القابعين في سجون الاحتلال، والعمال الفلسطينيين العاملين في اقتصاده سواء فيما وراء الخط الأخضر او اقتصاد المستوطنات في الضفة الغربية. وفي مستوى هاتين الفئتين فقد كشف الاحتلال عن وجهه القبيح بدون تردد او مواربة. الامر الذي أكد للعالم بان الشعب الفلسطيني وخلافا لكل شعوب العالم يواجه الوباء الطبيعي بيد ووباء الاحتلال باليد الأخرى.
وتبدأ هشاشة وضع الاسرى في مواجهة الوباء، من بيئة السجون الصهيونية ذاتها التي تصنف كبيئة مرضية بالمعنى الصحي، نتيجة لما تتميز به من ضيق واكتظاظ واحتكاك وعزل. وهي بيئة تمت هندستها من قبل إدارة السجون لاستنزاف قدرات الاسرى البدنية والنفسية. وقد وجد الاحتلال في انتشار الوباء وسيلة لتعميق عملية الاستنزاف التي يرى فيها أداة مناسبة للتحطيم المعنوي والجسدي للأسرى. وإذا كان العديد من بلدان العالم قد أقدم على اتخاذ قرارات الافراج عن سجنائها او وضع التدابير اللازمة، كشكل من اشكال مواجهة الوباء والحد من انتشاره، فان الاحتلال الصهيوني قد مضى في الاتجاه المعاكس وواصل مسيرته السابقة في قمع الاسرى، وأضاف اليها تعزيز وتوفير إمكانيات انتشار الوباء بينهم بوسائل متعددة، وذلك بحرمانهم من مواد التنظيف والتعقيم، واستهدافهم عمدا من قبل محققين وسجانين وأطباء صهاينة مصابين بالوباء. وهو الامر الذي رصده بيان الأورو متوسطي بتاريخ 17/3/2020 حيث ورد ومن غير مواربة. “أنّ المعتقلين الفلسطينيين يواجهون خطر الإصابة بالفيروس نتيجة الاحتكاك المباشر بالجنود الإسرائيليين، أو خلال عمليات التحقيق، إذ جرى الاشتباه بإصابة 4 معتقلين وعزلهم بعد التحقيق مع أحدهم في أحد السجون الإسرائيلية”.
كما ان الاحتلال لم يدر الظهر لكل النداءات الدولية بضرورة تجنيب الاسرى وباء الكورونا، بل واصل عملية الاعتقال واقتحام المدن والاعتداء على السكان المدنيين، بطريقة تساعد على تفشي المرض بشكل أوسع. وفي هذا الصدد أشار تقرير المرصد الاورومتوسطي لحقوق الانسان الصادر بتاريخ 30/3/2020 الى “سلوكيات مريبة لجنود إسرائيليين ومستوطنين، خلال عمليات الاقتحام، إذ قام بعضهم بالبصق تجاه السيارات المتوقفة وماكينات الصرف الآلية وأقفال المحال التجارية. وتم رصد 207 عملية اقتحام للمدن الفلسطينية في الضفة الغربية والقدس الشرقية. فقط خلال الفترة الممتدة بين 6 مارس 2020 تاريخ إعلان الحكومة الفلسطينية حالة الطوارئ في الأراضي الفلسطينية ضمن الإجراءات الوقائية لمواجهة تفشي فيروس كورونا المستجد، وحتى30 /3/2020. أي ان الهدف من هذه الاقتحامات هو تبديد وإلغاء فاعلية إجراءات السلطة في مواجهة الكورونا.
ان انقاذ الاسرى الفلسطينيين من المصير الذي يريد الاحتلال ان يخطه لهم، لا يمكن ان يتم بالدعاء والمناشدة، لذلك بات من الضروري والملح العمل على وضع الترتيبات النضالية اللازمة والضرورية لإنقاذهم، وذلك لا يتناقض بطبيعة الحال مع اللجوء الى كل الأدوات القانونية المكفولة بحكم القانون الدولي وبصفهم أسري حرب ومناضلين من اجل الحرية. وفي هذا الجانب لابد من طرح موضوع الاسرى الفلسطينيين بجرأة وبقوة امام العالم الذي يقوم الان بإخلاء السجون لمنع تفشي الوباء، والمطالبة بالإفراج او اخضاع السجون لإدارة دولية تتحمل المسؤولية تجاههم.
اما بالنسبة للعمال الذين دفعتهم ظروفهم الاقتصادية والمعيشية والحياتية للعمل في المناطق المحتلة عام 1948، وفي المستوطنات المقامة في الضفة الغربية، بشروط تتصف بالإذلال وعدم توفر وسائل ومقومات الوقاية والحماية، وهم يشكلون ما نسبته 17.7 بالمائة من القوى العاملة. فقد قامت سلطات الاحتلال بترحيل الالاف منهم إلى مدن الضفة الغربية من خلال الحواجز، وفتحات الجدار الفاصل بين إسرائيل والضفة الغربية، بعد أن ظهر على بعضهم حالات إعياء وارتفاع في درجات الحرارة. وقد جرت أغلب عمليات الترحيل، دون إجراء فحوص طبية، ودون اية ترتيبات مع السلطة؛ لضمان التعامل مع العمال العائدين وفحصهم للتأكد من عدم إصابتهم بالفيروس، وهو سلوك ينطوي على ممارسة تمييز عنصري. وتحويلهم الى قنابل موقوتة ناقلة للفيروس لإحداث أكبر قدر ممكن من العدوى بين سكان الضفة الغربية، لاسيما في ظل ضعف إمكانيات السلطة الفلسطينية للقيام بعمليات حجز او فحص كلي لهم.
ان مشكلة العمال هي أحد تعبيرات الاضطهاد والاستغلال الاستعماري الذي يحول الشعوب المستعمرة الى أدوات عمل رخيصة، قادرة على انتاج فائض القيمة المالية لمصلحته دون تحمل اية مسؤولية تجاههم، وفي الحالة الفلسطينية هم نتاج تقصير متراكم لم يمض في اتجاه بناء اقتصاد مقاوم للاحتلال، بل استراح البعض الى جني القيمة المضافة بالمعنى الاخر واستغلال العمال بطريقته، ومن غير وعي ان الاحتلال يمكن ان يستخدمهم أداة ضغط لصالحة حتى من غير اتشار الأوبئة. ولذلك لابد من التخطيط منذ اللحظة وفي خضم مواجهة الوباء من اجل بناء قاعدة اقتصاد مقاوم قادر على الاستيعاب التدريجي لقوة العمل الفلسطينية على طريق سحبها من موضوع استغلال واداة ضغط من قبل الاحتلال.
ان الشعب الفلسطيني يخوض معركة مركبة ضد الاحتلال وضد الفيروس معا، وإذا ما قدر له ان ينتصر على الوباء فعليه الاستمرار في المعركة ضد الاحتلال، خلافا لبلدان العالم التي إذا خرجت من الوباء فستلتفت فورا الى ترميم ما لحق باقتصادها من ضرر، ومن ثم تواصل نسق حياتها من جديد. ومثلما يستخلص العالم دروس إعادة بناء حياته اللاحقة من عبر مواجهته للوباء، من الضروري ان يتعلم الشعب الفلسطيني وقيادته السياسية دروسا جديدة في مواجهة الاحتلال، من خلال عبر ودروس مواجهته لجائحة الكورونا. وإذا كانت اللحظة تستدعي خوض معركة الوباء بكل القوى الذاتية المتوفرة، يضاف اليها ما يمكن الحصول عليه من مساعدات ودعم يكفله القانون الدولي، فإنها تستدعي أيضا وبذات المستوى الانتباه الى سياسة الاحتلال ومشاريع التصفية المطروحة، حتى لا يكون الشفاء من وباء عابر ثمنا للوقع في شرك وباء قد يكون مزمنا.. إذا لم ننتبه.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق