طوفان الأقصى والتحديات المصيرية
عابد الزريعي
مدير مركز دراسات ارض فلسطين للتنمية والانتماء
مدخل:
تشكل معركة طوفان الأقصى حلقة مميزة في سلسلة معارك حركة التحرر الوطني الفلسطينية. ويتمثل المقياس الموضوعي لقياس إنجازات هذه المعركة او تلك من معارك التحرك الوطني، في ثلاثة أسس، يتعلق أولها بمدى تعزيز تلك المعركة لشرعية المقاومة، وثانيها بمدى تفعيلها للتناقضات في صفوف العدو، وثالثها بمدى تفعيلها للتعارضات بينه وحلفاءه. ان السرد الموضوعي للنتائج المتحققة، على ضوء هذا المقياس، يؤكد ان طوفان الأقصى قد شكل نقلة نوعية في مسار نضال الشعب الفلسطيني، تتحدد ملامحها من خلال ربطها بمعركة سيف القدس التي اختتمت مرحلة الدفاع الاستراتيجي للحركة الوطنية الفلسطينية، تلك المرحلة التي تواصلت على مدى خمسة وسبعين عاما بكل ما فيها من انتصارات وانكسارات وافراح ودموع وتحدي وصمود، لتاتي معركة الطوفان وتدشن بداية مرحلة التوازن الاستراتيجي في الصراع مع العدو الصهيوني. وهذا ما يفسر كثافة التوقف الفكري والتحليلي من قبل عدد كبير من مراكز البحث الصهيونية أمام معركة سيف القدس، والانقضاض العسكري في محاولة لإجهاض النتائج الاستراتيجية لطوفان الأقصى قبل ان تترسخ، وتبدأ في انتاج مفاعيلها. أما على المستوى السياسي فقد جرت عديد المحاولات وقدمت المشاريع والاطروحات، في العلن والسر، من اجل تحويل مسار الطوفان الى اتجاه عكسي، نتناول في هذه المقال تلك المشاريع ـــ التحديات، والمهام اللازمة لمواجهتها ودحرها في عنوانين:
أولا: التحديات السياسية
على الرغم من تعدد صيغ هذه المشاريع، سواء اتخذت طابع الطرح الرسمي، او كانت مجرد اقتراحات وتصورات عابرة، الا انه يمكن ادراجها في أربعة عناوين هي:
اولا: التفتيت والتشتيت ـــ الديمغرافي: ويتمثل أولا في تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة ــ بشكل كلي ـــ الى شبه جزيرة سيناء المصرية، وإيجاد حياة طبيعية لهم في دول أخرى، وذلك بالتعاون مع المجتمع الدولي ودول عربية مجاورة. وتتلخص اليات التنفيذ في الابادة الجماعية وتدمير الملاذ الانساني لإجبار الناس على الهجرة تحت الضغط العسكري، وتوسيع السيطرة الأمنية الاسرائيلية على غزة بعد الحرب. وتقديم الاغراءات لبعض الأطراف الإقليمية للانخراط في المشروع، ومنها التلويح لمصر بإلغاء ديونها وفتح الباب اماها للاستفادة من غاز غزة، وللسعودية، باستغلال سكان غزة كعمالة. ومحاولة الحصول على دعم دولي:” على اساس انه حل صحيح وعادل وأخلاقي وإنساني”. ويتلخص الهدف من ذلك في التخلص من بيئة سكانية كثيفة ومستعدة للمقاومة. وتغيير تركيبة سكان غزة بشكل دائم. وإعادة مستوطني المناطق الحدودية و(كتلة) غوش قطيف”. وبناء مجمعات سكنيةـ مما سيعطي زخما للاستيطان في النقب. وثانيا بشكل جزئي يتمثل في افراغ شمال قطاع غزة من السكان، وطرح فكرة ترحيل المقاومين. ومن الجلي ان هذا المشروع يفتقر لأي غطاء دولي او اقليمي. فقد عارضت امريكيا تهجير الفلسطينيين، أو إعادة توطينهم خارج غزة بوصفها ارض فلسطينية”. وكذلك رفضته المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان. كما رفضته كل من مصر والسعودية. ونفت كل من (الكونغو ــ رواندا ــ تشاد) انخراطها في مباحثات بهذا الشأن، وذلك ردا على ما روجت له اسرائيل بانها تجري مباحثات مع هذه الدول لاستقبال ابناء قطاع غزة.
ثانيا: التوكيل الاداري: وهي جملة المشاريع التي تتحدث عن ادارة قطاع غزة بعد انتهاء العدوان، والقائمة على فرضية هزيمة المقاومة عسكريا. وتتلخص هذه المشاريع اولا في التوكيل العشائري، وذلك بتقسيم القطاع إلى مناطق إدارية، تديرها العشائر لفترة مؤقتة. وثانيا في تشكيل إدارة انتقالية من التكنوقراط في قطاع غزة لمدة عامين تكون مدعومة من الأمم المتحدة وقوات عربية. وثالثا في التوكيل الشخصي، ذلك ان الإمارات تؤيد تولي دحلان إدارة قطاع غزة ما بعد الحرب. ورابعا في توكيل السلطة الفلسطينية، وهي الصيغة التي تطرحها امريكيا وتناقشها مع قوى غربية، بعد اجراء تغييرات في بنيتها لتكون قادرة على تولي المسؤولية، بينما يرفض نتنياهو أي دور للسلطة في قطاع غزة، الا بعد اجراء تغييرا جوهريا بتبدى في اثبات وجودها في الضفة. وقد عبر رئيس وزراء السلطة عن موقفها من هذه الاطروحات بالقول: “إن السلطة الفلسطينية لن تعود إلى حكم قطاع غزة على ظهر الدبابات”. وخامسا التوكيل الدولي والاقليمي بصيغ متعددة منها نشر قوة متعددة الجنسيات تضم قوات أميركية. أو وضع غزة تحت إشراف الأمم المتحدة بشكل مؤقت. او تشكيل تحالف دولي بالتعاون مع الأمم المتحدة يتولّى تأمين غزة. او توكيل مختلط محلي واقليمي ودولي يضم أربعة أطراف: قوة متعددة الجنسيات (بقيادة الولايات المتحدة ودول غرب أوروبا والدول العربية المعتدلة، ومصر واسرائيل، وهيئة إدارة مدنية فلسطينية، (وتتكون من لجان محلية وأحزاب غير معادية لإسرائيل.) إلى أن تتمكن السلطة الفلسطينية من الاضطلاع بهذا الدور. وفي تقاطع مع تلك التصورات كشف وزير الخارجية الأميركي عن اتفاق 4 دول عربية «قطر، الإمارات، السعودية، الأردن» بالإضافة إلى تركيا، على البدء في التخطيط لإعادة إعمار غزة وإدارتها بمجرد انتهاء الحرب.
ثالثا: السيطرة الإسرائيلية: وتتمثل في اقامة منطقة أمنية على محيط غزة، يسمح لإسرائيل بالهيمنة الأمنية وحرية العمل العسكري بدون قيود. وعلى هذه الارضية حاولت اقناع مصر بالتعاون معها من اجل السيطرة على محور صلاح الدين “فيلاديلفيا” ومعبر رفح. وفي هذا السياق برزت تباينات في الموقف الاسرائيلي بين وزير المالية الذي يقول: “لتحقيق الأمن، علينا السيطرة على القطاع. وللسيطرة على المدى الطويل، نحن بحاجة إلى وجود مدني”. بينما يقول وزير الدفاع “لن يكون هناك وجود مدني إسرائيلي في قطاع غزة بعد تحقيق أهداف الحرب”.
رابعا: انهاء الاونروا: ويتبدى في المحاولة الاسرائيلية لإخراج وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) من قطاع غزة. حيث اتهمتا بإدامة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، من خلال توسيع وضع اللاجئ ليشمل أحفاد الفلسطينيين الذين هجرتهم عام 1948. كما اتهمتها بتمجيد الارهاب في مساقاتها الدراسية، وان خريجي مدارس الأونروا شاركوا في الهجمات ضد “المدنيين الإسرائيليين فضلا عن وجود محتوى معاد للسامية والجهاد في الكتب المدرسية”. وتتمثل اليات الوصول لهذه الغاية في اتهام الاونروا بالتعاون مع حركة حماس. وتقليص عمليات الأونروا في القطاع، ثم نقل كل مهام الأونروا إلى الهيئة التي ستحكم غزة بعد انتهاء الحرب”. ومن الجلي ان الحافز الكامن خلف ذلك هو محاولة طمس قضية اللاجئين الفلسطينيين التي تشكل الوكالة أحد رموزها، وبالنتيجة استهداف حق العودة للشعب الفلسطيني.
ثانيا: تقاطع المشاريع وتحديد المهام:
المسألة الاساسية التي يجب الانتباه اليها في قراءة المشاريع المطروحة هي انها جميعا تتعلق باليوم الثاني للحرب. وجميعها تتقاطع عند هدف واحد، وهو اجهاض انتصار المقاومة وتحويلة الى هزيمة سياسية ساحقة، وذلك بغض النظر عن التباينات في المواقف والمسافة التي يتخذها كل طرف من هذا المشروع او ذاك. وتتحدد الاهداف التي يراد من خلال تحقيقها اجهاض نتائج طوفان الأقصى في ثلاثة:
1 ــ انهاء ظاهرة المقاومة المسلحة في قطاع غزة. بتفكيك بنيتها، وتحويل القطاع الى بيئة متناقضة معها وطاردة لها، الى حد ان نتنياهو يطالب ب ” استئصال التطرف في المدارس والجوامع وتحويل المجتمع المدني الفلسطيني وتوظيفه في دعم مكافحة الإرهاب”.
2 ــ التهجير (الطوعي) طويل المدى لأكبر عدد ممكن من ابناء قطاع غزة، كصيغة مختلفة عن التهجير (القسري) بما تستدرجه من ردود افعال. وكان من اللافت تصريح الابو الغيط الأمين العام الأسبق لجامعة الدول العربية قال فيه: “التهجير معركة طويلة وتحتاج إلى تضامن عربي لإحباط المخططات التي تحاك ضد الشعب الفلسطيني والدول العربية”.
3 ـــ دفع القضية الفلسطينية في مسارب سياسية مجهولة تقود الى تصفيتها عبر مدخل “العمل على تحقيق السلام والأمن والاستقرار على المدى الطويل في المنطقة ككل”.
ان التقدم في محاولة تحويل الانتصار العسكري للمقاومة الى هزيمة سياسية، تستند الى تحويل ما خلفه العدوان من دمار على المستوى الانساني الى ثغرة دفرسوار جديدة. وذلك بإشهار ملف اعادة الاعمار كأداة ضغط. بما يعنيه ذلك من منع البنية السكانية من اعادة التموضع، واستمرار (هجرتها الداخلية) مع محاولة الاشتغال على خلق التعارضات بينها وبين المقاومة من ناحية، وتكثيف استعدادها للهجرة (الطوعية) من ناحية ثانية. كما تستند ثانيا الى العمل على جر أطراف اقليمية للانخراط أكثر في العمل من اجل تحقيق ذلك الهدف عن طريق تقديم الاغراءات لمصر (الاقتصاد وسد النهضة) وفي هذا السياق استشعر بعض النواب المصريين الخطر من اقرار مجلس النواب المصري تعديلا قانونيا يتيح للمستثمرين الأجانب تملك الأراضي الصحراوية، وقالوا إن القانون يشكل تهديدا للأمن القومي. خاصة أن ما يزيد على 90 بالمئة من مساحة مصر هي أراض صحراوية، والمناطق الحدودية (ومنها سيناء). وكذلك سعي اسرائيل المحموم والمستمر للسيطرة على ممر صلاح الدين. وفي هذا السياق تتبدى العلاقة بين ملف اعادة الاعمار، وتشديد الحصار على قطاع غزة، حيث يصبح التكيف مع الشروط المواكبة للملف ممرا اجباريا لمعالجة الدمار الذي خلفه العدوان، وفي حال رفض المقاومة لذلك، وتوفير مصادر تمويل بديلة ـــ وهي ممكنة ـــ فان الحصار واغلاق المعابر سيمنع عليها الاستفادة من هذه المصادر، وبالنتيجة تجد نفسها في مواجهة مع حاضنتها الشعبية، ولن تعدم القوى المعادية الوسيلة لحقن بعض أطرافها ودفعها في وجه المقاومة. وفي مواجهة هذه التحديات هناك مجموعة من المهام الضرورية والملحة وهي:
1 ــ الوحدة الوطنية: وحدة القوى الوطنية المقاومة بوصفها القاعدة الصلبة التي تضمن الالتفاف الجماهيري من حولها على قاعدة وضوح الموقف السياسي المنسجم مع الحقوق الوطنية الفلسطينية.
2 ــ الصمود العسكري: الاستمرار في المقاومة بذات النسق المتنامي من ناحية، واقتصاد جزء من القوى (احتياط) تكون جاهزة ومستعدة للتعامل مع مفاجئات ما بعد وقف إطلاق النار.
3 ــ الصمود الاداري: تعزيز الجهاز الاداري لمرحلة ما بعد الحرب ودعمه بلجان شعبية تطوعية لتقديم الخدمات وضبط اية انفلات.
4 ــ التنسيق مع حركات التضامن الدولية من اجل ضمان ديمومة حراكها، وتوحيد شعارها في هذه المرحلة تحت عنوان ” وقف العدوان ـــ وقف إطلاق النار”.
5 ــ التنسيق بين حركات التضامن العربي وتوحيد شعارها وهدفها تحت عنوان ” فتح معبر رفح”. الذي بات يمثل عقبا أخيل المقاومة، والقيام بمختلف الأنشطة التي تؤمن تحقيق هذا الهدف، ذلك ان استمرار فتح المعبر، يعني ضمان توفير لوازم صمود ما بعد الحرب، خاصة تلك المتعلقة بإعادة الاعمار، وعبر مصادر ــ ممكنة ــ خارج إطار الاشتراطات التي سيتم وضعها بهدف تحقيق الاهداف المناقضة لمصالح الشعب الفلسطيني.
خاتمة
ان زحمة المشاريع المطروحة تؤكد في جانب منها على حجم الانجاز الذي تحقق من خلال طوفان الأقصى، لذلك جاءت محاولات الاجهاض متعددة وكثيرة، الامر الذي يجعل من الصمود على الارض حجر الزاوية في دحر كل هذه المشاريع.