دور اتفاق أوسلو في تبرير التطبيع وتعزيز النزعة القطرية
عابد الزريعي
مدير مركز دراسات ارض فلسطين للتنمية والانتماء
لم يعد الدفاع عن اتفاق أوسلو ممكنا، دون الخروج عن قواعد وثوابت منطق الصراع مع الكيان الصهيوني، وإدارة الظهر للمصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطيني، كما تم تحديدها في كل وثائق الاجماع الوطني، وفي مفصل ارتباطها الوثيق بالمصالح القومية العليا للأمة العربية، لذلك نجد الدفاع عن الاتفاق غالبا ما ينحو ـــ وقد تبطن بالمصلحة الشخصية والنزعة الذاتية والتنظيمية الضيقة ـــ الى العناد المجرد من فضيلة الاستنتاج والاستخلاص النظري، والملاحظة العينية المباشرة، لما خلفه من نتائج باتت متجسدة على ارض الواقع، وما الحقه من اضرار بالقضية الوطنية. كما يلاحظ ان اغلب النقاش والتحليل للاتفاق ونتائجه، يكاد يدور في النطاق الوطني الفلسطيني سواء من قبل المدافعين عنه او المتصديين له، بما يعنيه ذلك من اغفال لما ألحقه الاتفاق من اضرار بالمسألة القومية، وبمسار الصراع الشامل بوصفه صراعا عربيا صهيونيا بالأساس، على الرغم من تقدم الشعب الفلسطيني لصفوفه، ومرابطته في خطوطه الأمامية، وذلك لأسباب موضوعية وذاتية متعددة. هذا المقال محاولة لتناول انعكاسات ونتاج الاتفاق على المستوى القومي، وبالنتيجة على الصراع مع العدو الصهيوني بشموليته المتجاوزة للقطرية العربية الراهنة.
تكشف القراءة المدققة لمسار النضال الوطني الفلسطيني في مرحلته الراهنة عن حقيقة جوهرية مفادها، ان اتفاق أوسلو جاء كنتيجة ومحصلة منطقية، لسمتين متراكمتين رافقتا هذا المسار، تمثلت الأولى في تعشيش خط التسوية والخروج على الثوابت الفلسطيني، في عمق هذا المسار، وقد كان برنامج النقاط العشرة احد اهم لحظات بروز ذلك الخط ، بينما تمثلت السمة الثانية في بروز النزعة القطرية الفلسطينية التي نبتت كباطل في تلافيف الحق الذي تبدى في وجهة النظر التي تقول ” ضرورة ابراز الشخصية الوطنية الفلسطينية، كصيغة مناقضة بشكل مباشر للكيانية الصهيونية”. لقد تقدمت وبرزت هاتين السمتين بشكل جلي، في ظل تردد القوى اليسارية وهيمنة القوى اليمينة المتنفذة على منظمة التحرير الفلسطينية، التي انتهت برفع شعار “استقلالية القرار الفلسطيني”، وهو أيضا شعار حق اريد به انتاج الباطل الذي تجلى في نهاية المطاف في صيغة اتفاق أوسلو. بما ترتب عليه من تفتيت موضوعي لوحدة الموقف القومي المتعلق بالقضية الفلسطينية.
ان الدفاع عن الاتفاق بحجة غياب الموقف العربي الموحد، وان الحديث عن وحدة الموقف القومي مجرد وهم، وغياب عن مجريات الواقع، يقفز عن حقيقة مؤداها ان معالجة غياب التجسيد الواقعي للموقف القومي، يجب الا يقود الى البحث عن الخلاص الفردي القطري. فالمسألة في جوهرها تتعلق بالموقف والمعنى، وبالتالي يصبح الموقف السليم هو تصحيح الخلل الذي يشوب المعنى وليس الاستسلام له. وفي هذا الجانب هناك مسألتان من المهم الانتباه لهما، تتمثل الأولى في ان انتاج القضية الفلسطينية قد تم من قبل القوى الامبريالية، في مسار التفتيت القومي، او بمعنى ادق منع ميلاد الدولة العربية الجامعة، من خلال اتفاقيات سايكس بيكو، وبالمنطق فانه من المستحيل انتاج حل للقضية الفلسطينية يتفق ومصالح الشعب الفلسطيني في سياق التفتيت ذاته، والعمل على تعميقه وتكريسه. بينما تتمثل الثانية في دور القضية الفلسطينية كعامل توحيد قومي، فقد جاء ميلاد الفكرة القومية كتتويج لحقائق قومية واقعية، يعبر عنها غالبا بوحدة اللغة والتاريخ والعادات والتقاليد.. الخ لكن المفارقة ان صياغة هذه الحقائق وبلورتها ضمن الفكرة القومية، قد جاء في لحظة تحدي تاريخية تمثلت في تقدم المشروع الصهيوني، لذلك بات تحرير الأرض المغتصبة ركن أساسي في ثالوث مهام حركة التحرر العربية (التحرير ـــ الوحدة ــ الخروج من التبعية) ذلك يعني ان القضية الفلسطينية باتت الشكل الأكثر تعبيرا من الناحية العملية عن فكرة الانتماء القومي الذي لم يستطع ان يبلغ صيغة الدولة الواحدة او تحقيق مشروع الوحدة. وبات الموقف من القضية الفلسطينية هو الصيغة الجامعة لشتات الامة، الامر الذي عبر عن نفسه بشكل أكثر وضوحا في اتفاقيات المقاطعة وكل القرارات الرسمية ذات الصلة، بل ان الأنظمة القطرية صارت تستمد مشروعيتها الجماهيرية من موقفها والتزامها بالقضية الفلسطينية ودعم الشعب الفلسطيني بغض النظر عن مصداقيتها ومدى التزامها بما تقول وتعلن.
لقد شكل اتفاق أوسلو الأرضية المنتجة للمقولات التبريرية لقوى التطبيع والانكفاء عن مقاومته على المستوى الرسمي العربي، وكذلك الانخراط العملي لعديد الأنظمة في مسار التطبيع مع الكيان الصهيوني. فعلى خلفية اتفاق أوسلو ظهرت مقولة ” لسنا فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين أنفسهم” وبذلك مثل أداة تفكيك لعرى ارتباط اغلبية الأنظمة بالقضية الفلسطينية، حيث رات فيه صيغة الحل التي أرادها أهلها، وبالتالي لا يستطيع أحد ان ينوب عنهم في ذلك، او يزايد عليهم. وبذلك وفر الاتفاق فرصة دعائية مجانية استندت اليها الأنظمة لتبرير اندفاعها نحو التطبيع مع العدو الصهيوني. وباتت مقولة ” تطبيع الفلسطينيين” تشتغل كمقولة دعاويه يتم ترويجها في مختلف الأوساط الجماهيرية. كما اوجد الأرضية الموضوعية لمقولة لاحقة وهي مقولة ” القرار السيادي” هذه المقولة لم تعد أداة الأنظمة التي مضت في مسار التطبيع لتمهيد طريقها، وانما باتت الذريعة التي تستند اليها الأنظمة التي لم تمض في مسار التطبيع، لعدم اتخاذ أي موقف نقدي تجاه الأنظمة المطبعة، بحجة ان القرار الذي اتخذته قرارا سياديا خاصا بها. وهي مقولة تتنكر للمصالح القومية العليا التي تتجاوز الحدود القطرية لأنها تمس مستقبل ومصير الامة. وبهذا التجاوز تتوفر الأرضية المناسبة للتفكيك القومي وضرب فكرة القومية العربية في الصميم من خلال تعزيز النزعات القطرية على مستوى خريطة الوطن العربي.
هناك وجهة نظر تقول لم يكن الواقع العربي على ما يرام ليأتي اتفاق أوسلو ويصنع كل هذا الخراب، وهي وجهة نظر فيها كثير من الصحة، خاصة فيما يتعلق بحقيقة الواقع العربي، وقد سبق ان فشلت كل الجهود العربية لثني السادات او محاصرته، عندما قام بزيارة القدس ووقع اتفاقية كامب ديفيد، كما ان هناك عديد الأنظمة والقوى التي تتحين الفرصة للتطبيع، سواء كان اتفاق أوسلو او لم يكن. تنضاف هذه الاطروحة على وجاهتها الى حزمة المواقف المبررة للاتفاق، كونها تتناسى مسألتين، الأولى ان الفرق بين اتفاق أوسلو واتفاق كامب ديفيد، ان اتفاق أوسلو يعني تسليما من اصحاب الحق الشرعيين بشكل مباشر بمشروعية الكيان الذي قام على أنقاض حقوقهم، وبالتالي تثبيتا لبقائه في قلب الوطن العربي مفهوميا. بينما جاء اتفاق كامب ديفيد من طرف محيط على أهميته ولذلك تشكلت مواجهة عربية ضد كامب ديفيد ـــ بغض النظر عن النتيجةـــ لكن لم يتحدث أي طرف عربي علنا ضد اتفاق أوسلو بذريعة ” اهل البيت أدري بشؤونه”. وبذلك سحب اتفاق أوسلو ذريعة مقاومة التطبيع، ومنحها لقوى التطبيع. وإذا كان الفشل في محاصرة اتفاق كامب ديفيد وإسقاطه، لا يمنحه اية شرعية، بل يستدعي وعي أسباب ذلك الفشل والقوى التي فشلت، والاستمرار في مواجهته بكل السبل، وان يكون الطرف الفلسطيني في مقدمة هذه المواجهة بدلا من الاقدام على خيارات سياسية تشرع الانهيار الجماعي على مستوى موقفها من الكيان الصهيوني وعلى مستوى وعيها بذاتها كأمة.
لقد تأكد على مدى الثلاثين عاما ان هناك علاقة إيجابية بين مسار اتفاق اوسلو والتطبيع العربي، وبالنتيجة التفكيك وتعزيز النزعة القطرية، وقد تجلى ذلك بشكل واضح إثر اتفاقيات أوسلو العام 1993، حيث وافق مجلس التعاون الخليجي على إلغاء المقاطعة على الشركات، التي تقيم علاقات اقتصادية مع إسرائيل. وكانت عينات ليفي الباحثة في “المعهد الإسرائيلي للسياسات الخارجية الإقليمية ” قد اشارت في سياق تحديدها للعوامل التي تسهل الاختراق الإسرائيلي للمغرب، الى ان تقدّم العملية السلميّة مع الفلسطينيين، يُسهّل على الرأي العّام في المغرب تقبّل العلاقات مع الدولة العبريّة، والشروع في إقامة علاقات دبلوماسيّةٍ رسميّةٍ. على أرضية هذه القراءة من الضروري مواجهة الدعاوة الرسمية المروجة لاتفاق أوسلو، من اجل تشريع انخراطها في مسار التطبيع والاستسلام للكيان الصهيوني، بالتمسك بثوابت ومنطلقات الصراع مع العدو الصهيوني، وذلك بالاستناد الى الوعي بحقيقة المشروع الصهيوني، والوعي العميق بوحدة الأمة التي يهددها هذا المشروع. بما يعنيه ذلك من الانتباه الى ان كل خطوة تجاه الاستسلام لهذا العدو ستقود بالضرورة الى تعميق عملية التجزئة والتفتيت. وعلى ضوء هذا الوعي تبدأ عملية الفرز وتتحدد خطوط المواجهة.