مقالات و دراسات

المهام الراهنة لحركة التحرر الوطنية الفلسطينية

د. عابد عبيد الزريعي

مدخل
تشكل ذكرى النكبة بكل ما تحمله من دلالات ومعاني مناسبة لاستخلاص دروس التاريخ وعبره، ومحطة للتوقف أمام معضلات الحاضر، كخطوة لابد منها للمضي نحو المستقبل. فالبحث في المهام التي يستدعيها الراهن السياسي ليست مسألة منقطعة ومنعزلة عما سبقها وما تلاها بوصفها الجسر الذي يصل ماضي الشعوب وقواها السياسية بمستقبلها. بما يعنيه ذلك من ضرورة الوقوف أمام المرآة ليس بهدف إطراء الذات، وإنما بهدف اكتشاف ما فيها من اعوجاج قد يستدعي البتر في كثير من الأحيان. وفي هذا السياق تندرج هذه الورقة التي نحاول من خلالها رسم وتحديد ملامح المهام الراهنة للحركة الوطنية الفلسطينية في ضوء المتغيرات الإقليمية والدولية التي تحدث من حولنا ضمن العناوين الآتية:1 ـــــــ الخلفية التاريخية للقضية الفلسطينية.2 ـــــ المتغيرات السياسية الإقليمية والدولية.3 ــــ الحركة الوطنية على ضوء اتفاق أوسلو.4 ــــ المهام الراهنة للحركة الوطنية الفلسطينية.
أولا: الخلفية التاريخية للقضية الفلسطينية.
بعيدا عن تفاصيل السرد التاريخي تتلخص العناصر الرئيسة للخلفية التاريخية للقضية الفلسطينية فيما يلي:
1 ـــــ من بين عديد الوثائق التي ساهمت في وجود المشكلة الفلسطينية، هناك وثائق ثلاث تستحق التوقف أمامها، لصعوبة فهم مسار التاريخ الفلسطيني قبل عام 1948 بمعزل عنها. الأولى اتفاقية سايكس ــــــ بيكو 16 مايو 1916 التي تم بموجبها فصل فلسطين جغرافيا وديمغرافيا عن الجسد العربي بشكل عام وعن سوريا بشكل خاص. والثانية إعلان بلفور 2 نوفمبر 1917 الذي حدد هدف عملية الفصل في تحويل الجغرافيا الفلسطينية المفصولة إلى دولة يهودية والديمغرافيا المعزولة إلى مجموعة من الطوائف على طريق التخلص منها بإعادة توزيعها في جغرافيات متعددة. والثالثة صك الانتداب الذي وضع موضع التنفيذ في 29 سبتمبر 1923 وتولت بريطانيا بموجبه وبتكليف من المجتمع الدولي القيام بالخطوات العملية اللازمة لتنفيذ ما جاء في الوثيقة الثانية.
2 ــ إن الشعب الفلسطيني الذي وجد نفسه مضطرا للتكيف مع نتائج الاتفاقية الأولى، ألقى بثقله النضالي ضد الاستحقاقات المترتبة على الاتفاقيتين الثانية والثالثة. لكن هذا النضال لم يستطع أن يفشل أهداف هذه الاتفاقيات وانتهى بهزيمة عام 1948. وإذا تجاوزنا بعض جوانب القصور الذاتي في الحركة الوطنية الفلسطينية فان الدور الذي قامت به القوى الرجعية العربية كان أهم العوامل المعرقلة لنضال الشعب الفلسطيني، بسبب اصطفافها موضوعيا إلى جانب القوى التي صاغت الاتفاقيات المشار إليها.
3 ــ :إن القوى الامبريالية والصهيونية والرجعية العربية التي تآمرت على الشعب الفلسطيني طوال تاريخه سواء قبل نكبة 1948 أو بعدها، هي ذات القوى التي تآمرت بعد ذلك على ثورة 23 يوليو في مصر بقيادة الرئيس عبد الناصر،وتتآمر اليوم على سوريا مستعينة بالقوى التكفيرية وقوى الإرهاب الدولي.
4 ــ : ان أهداف الشعب الفلسطيني التي تحددت في خطوطها الإستراتيجية على ضوء نكبة 1948 ممثلة في حق العودة إلى كامل ارض فلسطين التاريخية، مازالت حتى اللحظة تمثل أساس البرنامج النضالي للشعب الفلسطيني بينما تمثل العناوين السياسية المرفوعة ـــــ التي تشكل إجماعا وطنيا ــــــ بعد هذا التاريخ والناتجة عن المسار الموضوعي للصراع ـــ الدولة ــ الاستيطان ـــ الأسرى ـــــ الوسائل النضالية …. الخ تفريعات للهدف الأساس.
5 ـــ إن العقبات التي انتصبت أمام الشعب الفلسطيني ومنعته حتى اللحظة من تحقيق أهدافه الوطنية ، تتلخص في ثلاثة: أولها العقبة الدولية التي تجسدت من خلال الموقف المعادي للقوى الامبريالية التي تحكمت في النظام الدولي إلى حد كبير. والثانية العقبة العربية التي تجسدت في الموقف العربي المتخاذل والضاغط على النضال الفلسطيني حيث لعبت قوى الرجعية العربية الدور الريادي في هذا الجانب. والعقبة الثالثة هي العقبة الفلسطينية المتمثلة في عوامل القصور الذاتي في الحركة الوطنية الفلسطينية. لقد قاد تضافر هذه العقبات إلى وضع حجر عثرة في طريق النضال الفلسطيني الذي بات مصيره يرتبط بشكل كبير بإزالة هذه العقبات وإزاحتها من طريقه باتجاه تحويلها إلى عوامل مساعدة.
ثانيا: المتغيرات السياسية الإقليمية والدولية.
إن التحديد الدقيق للمهام يستدعي بالضرورة الإدراك العميق والواعي للمتغيرات الإقليمية والدولية التي تحدث من حولنا، لان تجاهل هذه الحقيقة السياسية لا يقود إلا إلى الانعزال عن حركة الواقع والانغلاق على الذات والتحجر والفناء بالمعنى السياسي. وإذا كان المسار العام للمتغيرات يتمثل فيما عاشته الساحة العربية من أحداث على مدى ثلاثة سنوات، فان الحدث الأهم من بينها يتجسد من خلال صمود سوريا التي تقف في هذه اللحظات على عتبات انتصار تاريخي يمثل المدخل لجملة من المتغيرات الإستراتيجية على كافة المستويات الإقليمية والدولية ذات التأثير المباشر على القضية الفلسطينية، ويمكن تحديد هذه المتغيرات فيما يلي:
أولا: على المستوى الدولي: فتح الباب لقيام نظام دولي جديد متعدد الأقطاب والقوى الدولية على أنقاض نظام الأحادية القطبية.
ثانيا: على المستوى الإقليمي: تعزيز محور المقاومة والممانعة في خط متصل جغرافيا من لبنان إلى إيران
ثالثا : على المستوى العربي: توفير الظرف الموضوعي لحالة نهوض قومي ووطني جديد. يمثل التلاحم بين البرنامج الوطني والديمقراطي احد أهم مميزاته. وهي مسألة ناتجة عن لحظة التداخل بين العامل الداخلي للوضع السوري مع العامل الخارجي.
وإذا نظرنا إلى هذه المتغيرات من زاوية تأثيرها على حركة التحرر الفلسطينية فإنها ستقود من الناحية الموضوعية إلى جملة من النتائج المتمثلة فيما يلي:
1: على المستوى الفلسطيني: التأثير الايجابي في العقبات الثلاثة التي وقفت في وجه النضال الفلسطيني على مدى تاريخه الطويل وهي العقبات الدولية والعربية والفلسطينية كما يلي:
2: على مستوى العقبة الدولية: انفتاح الوضع الدولي المتشكل على قضايا الشعب الفلسطيني الذي سيجد نفسه أمام مجال أرحب في ظل انكفاء الهيمنة الأمريكية.
3: على مستوى العقبة العربية: إعادة بناء الحاضنة القومية للنضال الفلسطيني باتجاه التوافق مع حقوقه الوطنية.
4: على مستوى العقبة الفلسطينية: إعادة الاعتبار للشتات الفلسطيني في العملية النضالية بما يعنيه ذلك من وضع حق العودة بقوة على طاولة الصراع مع العدو الصهيوني.
لكن السؤال الذي لابد من طرحه هو: هل البنية الفلسطينية التنظيمية والسياسية في وضعها الحالي قادرة على التعامل مع هذا المتغير بحيث تستطيع الاستفادة منه إلى الحد الأقصى؟ الإجابة على هذا السؤال تستدعي الانتقال إلى العنوان الثالث وهو التشخيص الدقيق لبنية حركة التحرر الفلسطينية في صيغتها الراهنة.
ثالثا: الحركة الوطنية في ضوء اتفاق أوسلو.
لقد تشكلت الحالة الفلسطينية الراهنة على أرضية اتفاق أوسلو الذي جاء عام 1993 في ظل لحظة سياسية تتسم بانغلاق الأفق الإقليمي والدولي أمام القضية الفلسطينية خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتشكل نظام الأحادية القطبية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. لذلك طرأت على الحركة الوطنية الفلسطينية مجموعة من الظواهر الناتجة عن الاتفاق الذي أرادت إسرائيل التعامل معه كأداة لتآكل حركة التحرر الفلسطينية وتفكيكها على كافة المستويات السياسية والتنظيمية والاجتماعية. وتتلخص هذه السمات فيما يلي:
1ــــــ تهميش وتفكيك دور ومؤسسات منظمة التحرير بوصفها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده، واستبداله لصالح مؤسسات السلطة الفلسطينية المنبثقة عن اتفاق أوسلو والتي تنحصر تمثيليتها في الضفة والقطاع.
2 ــ تعمق ظاهرة الانقسام في بنية الحركة الوطنية الفلسطيني التي باتت تعيش من حيث المستوى انقساما شاملا له تعبيراته الجغرافية والديمغرافية والإدارية والايديولجية والسياسية وحتى الاقتصادية حيث بات لكل طرف مؤسساته الاقتصادية وسبل تمويله ومرجعياته المحاسبية وقوانينه الضريبية. أما من حيث النتائج فقد أدى هذا النمط من الانقسام إلى تهميش غالبية فصائل العمل الوطني الفلسطيني كما أدى إلى تهميش الخارج الفلسطيني من ناحية، والجماهير الفلسطينية في الأراضي المحتلة عام 1948 من ناحية ثاني، وعزلهم سياسيا عن الجماهير الفلسطينية في الضفة والقطاع من ناحية ثالثة. وأوجد حالة فلسطينية باتت موضوعة على هامش عملية الصراع.
3 ـــــ تعمق ظاهرة النزول المبكر عن الجبل من خلال الترويج لحلول الدولة الفلسطينية المرجوة في جسد السلطة الفلسطينية بوزرائها ومجلسها التشريعي وإداراتها، وذلك كنتيجة لعملية تحويل مبرمجة للنضال الفلسطيني لرأس مال رمزي متحالف مع منظمات العولمة المالية وصناديق الدول المانحة.
4 ــــ انتشار ظاهرة المنظمات غير الحكومية وتسرب أطروحاتها التي تروج لليبرالية السياسية وتفتقد لأي خطاب تحرري ينسجم والظروف الموضوعية للشعب الفلسطيني، بل باتت هذه المنظمات تستقطب العديد من كوادر الحركة الوطنية الفلسطينية النشطة والفاعلة.
5ــ ــ فتح الباب لثقافة التطبيع كنتيجة للسلوك السياسي للسلطة الفلسطينية وأجهزتها بما ترتب على ذلك من عملية تمييع ونقل الوعي بالصراع مع العدو إلى مستوى الخلاف مع الآخر، إضافة إلى ذلك منح مشروعية لعديد الأطراف العربية للتطبيع مع العدو الصهيونية بحجة إننا نفعل مثلما يفعل الفلسطينيون.
6 ــــ تفشي ظاهرة الفصيل ـــــ المشروع الذي يفتقد إلى أي وزن أو دور في الساحة الفلسطينية لكنه يستخدم كأداة لإضفاء المشروعية على أي قرار سياسي يمكن أن يتم اتخاذه، في مقابل تنعم قيادته بالامتيازات التي تتوفر لها بحكم موقعها في المؤسسات القيادية الفلسطينية.
7 ـــ لقد ترتب على ما سبق عديد الظواهر الاجتماعية مثل نمو ظاهرة الانتماءات الجهوية والعشائرية والعائلية التي تنتشر في المخيمات والمدن والقرى والتي كان مجرد التفكير بها ضرباً من الموقف الرجعي المعادي لبناء مقومات الشخصية والهوية الوطنية
رابعا: المهام الراهنة للحركة الوطنية الفلسطينية.
إن صياغة المهام الراهنة للحركة الوطنية الفلسطينية يرتبط بالضرورة بمسألتين تتمثل الأولى بالحقائق الموضوعية التي يمكن أن توفرها المتغيرات الإقليمية والدولية للقضية الفلسطينية والتي سبق الإشارة إليها، وتتمثل الثانية في صورة الحركة الوطنية الراهنة كما تم توصيفها في العنوان السابق.
إن الربط بين المسألتين يستدعي الإجابة على السؤال الأتي: هل تستطيع الحركة الوطنية الفلسطينية ببنيتها المتشكلة بعد اتفاق أوسلو أن تستفيد ايجابيا من تلك المتغيرات؟؟ ولان الإجابة الموضوعية تنفي ذلك يصبح طرح المهام التي تسعى إلى معالجة جوانب الخلل تلك مسألة ملحة وضرورية، ومن اجل خلق الأسس التي تسمح بالقدرة على التكيف مع جملة المتغيرات الإقليمية والدولية والاستفادة منها من اجل التقدم بالنضال الوطني على طريق تحقيق أهداف الشعب الفلسطيني. وتتلخص هذه المهام فيما يلي:
1: الحفاظ على هوية القضية الفلسطينية الرئيسة بوصفها حركة تحرر وطني تتخذ مشروعيتها من حق الشعب الفلسطيني في العودة وتقرير المصير وبناء الدولة المستقلة. وتوظيف السلطة الفلسطينية في هذا الاتجاه وليس العكس.
2: إعادة بناء المشروع الوطني: برنامج وأدوات بما يكفل تجديد التمسك بالأهداف الوطنية التاريخية بديلاً لتنازلات أوسلو وتجديد النضال والمقاومة ضد الاحتلال وإعادة الدور الذي لعبه الميثاق الوطني في توحيد الشعب وبلورة هويته وتأكيد رؤيته لدوره في التاريخ. يجعل من الأولويات الوطنية إعادة الاعتبار له.
3: بناء الوحدة الوطنية ــــــ والوحدة الوطنية غير المصالحة، وفي مقدمة عملية البناء إعادة تجميع الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية. وإعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية على مستويين:
1 ـــ المستوى العام: بناء منظمة التحرير الفلسطينية كأداة جامعة ومنظمة للمشروع الوطني الفلسطيني. وتحديد الأسس الضابطة لتمثيل أي فصيل فلسطيني في هيئات المنظمة التي يجب أن تستند لأوسع مشاركة ديمقراطية شعبية مقاومة للاحتلال ومعبرة عن الهوية الوطنية على المستوى المجتمعي.
2 ـــ المستوى الخاص: أن تتقدم الفصائل نحو إعادة بناء ذاتها وتجديد أطرها وقياداتها.والتأكيد على إنهاء ظاهرة الفصيل ـــ المشروع.
4 ـــ التركيز على المحتوى الوطني التقدمي للجهد التربوي والتنويري إن كان على صعيد التربية والتعليم في المدارس أو في الأوساط الشبابية. خاصة بعد ان بدأت الأفكار الليبرالية المشبعة بقيم الربح والأنانية والمنافسة والفردية في التسلل إلى المناهج التعليمية الفلسطينية. لقد بات الأمر يستدعي العمل الدءوب لمواجهة ثقافة التطبيع وتدعيم قيم وثقافة التحرر الوطني
5 ــــ إعادة تجسير العلاقة بين العامل الوطني الفلسطيني والقومي العربي على أسس ومفاهيم تنسجم مع مجمل المتغيرات الحاصلة في المنطقة. وهذه المسألة ذات شقين:
الأول: فلسطيني ضرورة الخروج من المحورة حول الذات والتركيز على التلاحم المصيري بين القضية الفلسطينية والأمة العربية.
والثاني: عربي يؤمن ان القضية الفلسطينية ليست بندا في خانة المهام القومية كما تعودت ان تضعها فصائل العمل الوطني العربية، لكنها وبحكم التطور الموضوعي للمشروع الصهيوني الذي يسير باتجاه تجاوز مرحلة المركزة على الأرض الفلسطينية كوجود استيطاني مجسد إلى المركزة في كل بلد عربي على حدة كوجود ثقافي واقتصادي واستخباراتي، باتت قضية تستدعي ان تدرج في بند المهام الوطنية بالنسبة لكل فصيل عربي وتحت عنوان” مقاومة العدو الصهيوني” وبما يستدعيه ذلك من عمل على إدراج القضية الفلسطينية في صلب المناهج الدراسية بما يترتب عليها من تشكيل الهوية والعملية التثقيفية العامة بما تخلقه من قناعات ثابتة، والعملية الإعلامية بما تخلقه من عملية تفاعل يوميه.
خاتمة
لقد تمحورت المهام المقترحة حول المفصل التنظيمي والاجتماعي والتربوي والوطني العام دون ان تتطرق إلى القضايا المرتبطة بأشكال النضال انطلاقا من قناعة مؤداها أن المفصل التنظيمي يمثل الحلقة المركزية التي يمثل الإمساك الجيد بها الاستحواذ على بقية السلسلة. بما يشكل الإجابة الناجعة على كل إشكاليات الساحة الفلسطينية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق