أرض فلسطينالتراث الشعبيالتراث الطبيعيبيئة فلسطينتراث فلسطين

شواهد التراث الطبيعي والثقافي في ارض فلسطين: أنثروبولوجيا الإنسان والنبات

أسماء بلعسكري و وائل الزريعي

مقدمة
يعرف التراث على انه ارث مشترك لمجموعة بشرية، لشعب او لأمة. وهو رصيد ثقافي، تاريخي، أثري أو طبيعي، أمانة وجب حفظها ونقلها للأجيال القادمة. حماية التراث الطبيعي بما فيه الطب التقليدي، واستخدام النبات والمعارف المتعلقة باستعمالاته المختلفة في حيات الشعوب الأصلية والمحلية هو أولوية في اتفاقيات اليونسكو لحماية التراث.
شكل الإحتلال الصهيوني لفلسطين عام 1948م، تهديداً خطيراً لعلاقة الإنسان والأرض، حيث سعى الكيان الصهيوني، الى محو كل علاقة بين الإنسان الفلسطيني وتراثه الطبيعي والثقافي، فعندما يقوم هذا المحتل، باختيار زهرة قرن الغزال التي كانت تزهر في وادي اللطرون، ويحولها إلى الشعار الرسمي لدولة الإحتلال، نفهم ان الكفاح من اجل هذا الوطن يبدا بالدفاع عن بذرة لان هذه البذرة رمز للهوية الفلسطينية. ولذلك كان الفلاح الفلسطيني، في طليعة الكفاح للدفاع عن هذه الأرض وعلاقته بها. يلعب علم النبات دورا هاما في ترسيخ الهوية الفلسطينية حيث ارتبطت العديد من الأسماء العلمية لمجموعة من النباتات باسم فلسطين كالبطم الفلسطيني (Pistacia palaestina)، اللوف الفلسطيني (Arum palaestinum)، الأقحوان فلسطيني (Anthemis palaestina)، البصيلة الفلسطينية (Androcymbium palaestinum)، السوسن الفلسطيني (Iris palestina) ، النفل الفلسطيني (Trifoliun palaestinum) ، الثوم الفلسطيني (Allium palestinum) ، السنفيتون الفلسطيني (Symphytum palestinum) و نباتات أخرى تقف شوكة في حنجرة المستعمر لما لأسمائها من دلالة قاطعة على تاريخ الأرض الفلسطينية كما يحاول هذا الغاصب تزوير و تغيير هذه الأسماء و استبدالها بأخرى لمحو هذه الدلالات.
الهدف من هذا المقال هو التطرق للعلاقة التي ربطت الإنسان الفلسطيني، بنباتات ارض فلسطين، وهي علاقة متداخلة ومتنوعة، بتنوع النسيج النباتي الذي يغطي هذه الأرض، ويصنع هويتها الثقافية و الحضارية.
الإنسان البدائي والنبات في فلسطين
استوطن الإنسان البدائي أوروبا وأجزاء من غرب آسيا وآسيا الوسطى منذ حوالي 300000 إلى 28000سنة (ق و)، وكشفت أحدث الدراسات عن وجود هذا الإنسان في فلسطين وليبيا. عاش الإنسان البدائي معتمدا على الصيد. وفيما أعتقد لمدة طويلة أنه كان لا يتغذى إلا على اللحوم، وجدت حديث أثار متحجرة لبعض النباتات على بعض الأسنان المتحجرة.
أما من أهم الإكتشافات، فوجدت في مغارة كبارة و هو موقع لكهف جيري في قرية كبارة المهجرة في حيفا (فلسطين)، حيث عثر فيها على عظام بشرية، أهمها هيكل عظمي لطفل مدفون دل على أن الإنسان البدائي كان يمارس طقوسا جنائزية لدفن موتاه. أما نظرية غذائه المطلق على لحوم الحيوانات والسمك فنقضت حيث اكتشف أنه أضاف إلى نظامه الغذائي بذور البطم والبلوط واللوز. يبدو أن الإنسان البدائي في فلسطين استحسن طعم بذور البطم الأطلسي فاستخدمها في غذاءه وخزنها داخل مغارته.

الإنسان الفلسطيني و شجرة البطم الأطلسي
شجرة البطم الأطلسي (Pistacia atlantica) من الأشجار المُعمّرة و تنتمي إلى عائلة البطميات مع البطم الفلسطيني و السماق .تنتشر الشجرة في شرق اروبا و في عدة دول في آسيا )فلسطين، الأردن، سوريا، لبنان، إيران، باكستان، أفغانستان) و يتوسع انتشارها في دول المغرب (تونس الجزائر المغرب) و في جزر الكناري. لقد ذكرنا آنفا أن بذور البطم الأطلسي كانت من أوائل النباتات التي تغذى عليها الإنسان البدائي إضافة إلى بذور البلوط واللوز. فيما استخدمت بذور البطم الأطلسي أيضا لإشعال النار وذلك لغناها بالزيت.
ويعتبر البطم الأطلسي من الأشجار المقدسة لدى العديد من الشعوب حيث ذكرت في الكتب المقدسة القديمة وفي قصص العديد من الأنبياء. أما استعمالاتها فلا تحصى بدأ بالظل الذي توفره خاصة في المناطق القاحلة، إلى البذور التي تهرس مع التمر أو تخلط مع عجين الخبز لتنكهه وتضيف إلى قيمته الغذائية. ويستخرج من البذور زيت طيب الرائحة يستعمل للأكل وللتطبيب. تستعمل الأوراق الفتية لتحضير سلطة شهية فيما تؤخذ الأوراق والأغصان لعلاج آلام المعدة وفي الدباغة والصباغة. أما الخشب فاستعمل للوقود ولصناعة العديد من أدوات المطبخ التقليدي والمعاصر وأدوات الزراعة التقليدية ذلك لجودته العالية ومقاومته للتعفن والتحلل.

الإنسان الفلسطيني و شجرة البطم الفلسطيني
شجرة البطم الفلسطيني (Pistacia palestina) من الأشجار الحرجية المُعمّرة وتنتمي إلى عائلة البطميات مع السماق. الشجرة واسعة الانتشار في فلسطين، كما تتواجد في الأردن، سوريا ولبنان. في فلسطين نجدها في الجبال الوسطى وجبال الجليل وجبال رام الله وبشكل أقل في السهل الساحلي والأغوار.
تستخدم أوراق البطم وثماره كمدر للبول ولتقوية الطحال، وكقاطعة للإسهال و تدخل في مستحضرات التجميل. أما ثمار البطم الفلسطيني فتدخل في وصفة متميزة لخبز إسمه دكاديك (أي قراقيش) لقرقشة الثمرة عند مضغها. وتقطع رؤوس الأغصان الطرية وحديثة النضج في بداية فصل الربيع من كل عام وتسمى اخليطة وتعد بها سلطة لذيذة وطيبة. كما استفاد الفلاح الفلسطيني من خشبه صانعا محراثه الفريد وتفنن الطفل المبدع صانعا، من بيت الحشرة التي تنمو على الأوراق مغيرتا شكلها، مزماره الصغير بالثقوب التي يحدثها.
يتعرض البطم الفلسطيني لحملات شرسة من قبل الاحتلال الإسرائيلي تصبو إلى تغيير اسمه العلمي فمن المؤكد أن الصفة (palaestina) تزعج أقلامهم وأسماعهم.

الإنسان الفلسطيني وشجرة الجميز
الجميز (Ficus sycomorus) شجرة كبيرة جدا، دائمة الخضرة ومعمرة حيث يمكن أن يعيش عدة قرون. ثمارها تشبه التين، كروية، برتقالية اللون ولذيذة المذاق. تنمو وتتكاثر شجرة الجميز في إفريقيا الوسطى اليمن وفي المنطقة الاستوائية للمملكة العربية السعودية، إلا أن اهتمام الفراعنة والفلسطينيين القدامى جعلها من أكثر الأشجار المثمرة ازدهارا في مصر وفلسطين. تشتهر الكثير من المدن الفلسطينية بوجود أشجار الجميز وتشمخ فيها بعض الأشجار المعمرة إلى اليوم. أما مدن قطاع غزة مثل خان يونس والقرى الشرقية ومنطقة القرارة فمليئة بأشجار الجميز الضخمة والتي كان الإعتماد عليها في القديم لتقسيم المناطق حيث تبدأ قرية كذا عند جميزة فلان وتنتهي قرية كذا عند جميزة فلان.
تفرز أشجار الجميز لبن غزير عند قطع أو جرح أي من أعضائها (الثمار، الأوراق أو الأفرع الصغيرة) واستعمل اللبن في الطب القديم في مداواة الجراح وبعض الأمراض الجلدية.

الإنسان الفلسطيني و اللوف الفلسطيني
اللوف الفلسطيني هي نبتة تتميز بجمال أوراقها وخاصة بجمال نورتها الكبيرة، ذات اللون البنفسجي القاتم. يسمى (في فلسطين) محور النورة الطويل أسود اللون مكحلة الغولة وذلك لشكله ولونه. أما النبتة فرغم أنها سامة وبها مادة حريفة تعقد اللسان ولا يستطيع آكلها أن يُخرج كلامَهُ من حلقه، إلا أن المرأة النفساء الفلسطينية تحبّ أن تعمل منها طبخة شعبية صحية ومغذية، متغلبة على خطر النبتة بخبرتها المتوارثة عبر الأجيال في مجال الطب الشعبي.
تنتشر نبتة اللوف الفلسطيني في جبال فلسطين وهي من النباتات البرية المذكورة كثيرا في التراث الفلسطيني. يتهافت الجميع أيام الربيع عند ظهور أوراقها الكبيرة لجمعها وغليها في الماء و الملح للتخلص من السائل السام، ثم تطهى الأوراق في الزيت و الثوم و البصل كالخبيزة او تضاف الى عجينة الخبز.

الإنسان الفلسطيني والسماق
شجرة السماق هي شجرة جميلة المنظر كثيرة الأوراق تنتمي إلى عائلة البطميات. تسمى ثمارها بالتمتم والعبرب والعربرب والعنزب والعترب وهي شجرة معمرة تعيش في الأراضي الجبلية في فلسطين. عُرف السُّماق قبل الميلاد، فقد ورد ذكره في الإستطباب عند كلٍّ من: ديسقوريدوس وجالينوس، ثُمَّ عند الرازي و إبن سينا و ابن ماسويه وإسحاق بن عمران والشريف وغيرهم.
يستعمل منقوع السماق غرغرة في حالة التهاب الحلق. يستعمل لتقوية المعدة، وتضمد به الضربة، فيمنع الورم والخضرة وقيل أنه إذا نقع في ماء ورد واكتحل بذلك الماء نفع من ابتداء الرمد، وقوّى الحدقة، وقطع الحكة في العين، ويسكن العطش، ويشهي الطعام.

الخاتمة
لا يسعنا أن نختم هذا المقال دون ذكر شجرة الزيتون المباركة، إلا أن هذه الشجرة لا تحتاج للتعريف بها فقداستها ورمزيتها من رمزية غصنها الذي يرمز منذ القدم للجلالة و القوة تارة و للسلام و المحبة تارة أخرى. أما فلسطيننا فستظل شامخة معمرة كتلك الزيتونة الفلسطينية التي جاوزت القرون وشهدت على أعرق الحضارات.
لا تزال قائمة النبات الفلسطيني ظويلة لا تحصر فلا نذكر في هذا المقال إلا غيض من فيض. وهكذا تميزت الهوية الثقافية والإجتماعية الفلسطينية بهذا الموروث الشعبي والطبيعي الغني و القيم. وبقدر ما أبدع فيه الأجداد من دراية ومهارات وممارسات، تناقلت و تطورت عبر الأجيال، بقدر ما تزيد و تتضاعف مسؤولية الأجيال الحاضرة و القادمة في المحافظة عليه من الإندثار، الزوال أو التزوير.

“المقال صدر في العدد الثاني لمجلة يبوس التابعة للاتحاد العام للكتاب و الادباء الفلسطينيين في الجزائر”
المراجع

  • اتفاقية حماية التراث الثقافي و الطبيعي، يونسكو، باريس، 1972
  • اتفاقية حماية التراث الثقافي غير المادي، يونسكو، باريس، 2003
  • أسماء بلعسكري، فلسطين الإنسان و النبات (Palestine Ethnobotanica) ، مركز دراسات أرض فلسطين. تونس
  • عثمان شركس، زهرة من أرض بلادي: البطم الفلسطيني، افاق البيئية و التنمية العدد 70 .2014. http://www.maan-ctr.org/magazine/article/534
  • جــمــيــل عــبــود، من نباتات فلسطين البرية: شجرة السّماق، من جعبتي أقول لكم (مدونة) 2014. https://jamilabboud.com/2014/05/24
  • Abou Auda M. Medicinal Plant Diversity in the Flora of Gaza Valley, Gaza Strip, Palestine, An – Najah Univ. J. Res. (N. Sc.) Vol. 26, 2012.
  • El Zerey-Belaskri A. A multidisciplinary approach for the characterization of Pistacia atlantica Desf. subsp. atlantica diversity in Northwest Algeria. Unpublished PhD Thesis, Sidi Bel Abbes University (Algeria) 143p. 2016
  • El Zerey-Belaskri A., Benhassaini H. El bottom à travers l’existence des Homo: récit entre générosité et ingratitude. 1ère Journée d’Etude sur la Conservation et la Valorisation de la Biodiversité Végétale en Algérie, Sidi Bel Abbes, Algérie21février 2017.
  • Lev E, Kislev E, Bar Yosef O. Mousterian vegetal food in Kebara cave Mt. Carmel. Journal of Archeological Science, 32: 475-484. 2005.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق